الكوابح المعطلة والسرعة المتزايدة

مثلما لم تصمم الفرامل للسيارة أو للدراجة من أجل الديكور أو الزينة أو الرفاهية، وإنما للسير السليم وتفادي السرعات الكبيرة ودرءاً لوقوع الحوادث والتصادمات، فإن التطور التاريخي البنيوي للبلاد نشأت عنه اتحادات وجمعيات ومنظمات تضم مئات الآلاف من الأشخاص ممن يمتهنون المهنة نفسها أو يمارسون العمل نفسه، فأصبحت لدينا هيكلية متعددة من الاتحادات والنقابات والمنظمات، من اتحاد العمال إلى اتحاد الفلاحين واتحاد الصحفيين والاتحاد النسائي واتحاد المصدرين وغيرها من منظمات وأحزاب تأسست لتكون حامية لمصالح منتسبيها ومحققة لأهدافهم بما ينسجم مع البناء الوطني الكلّي، وقد كان لهذه الاتحادات والمنظمات والأحزاب أدوار ومهام وإنجازات واضحة بناءة وفاعلة انعكست بإيجابية على قوة وصلابة البنيان والولوج في مستويات جيدة من النمو والتنمية، ولكن التطور اللاحق لأدائها ولفاعليتها خلق الكثير من التساؤلات عن الأسباب والمبررات..

والكاشف الأكبر لفقدان روحيتها كان النهج الاقتصادي الذي سبق الأزمة، وكثر حملوه المسؤولية لأنه مدخل ومشوه بنيوي لصلابة البناء، وسبب لدخول المياه الآسنة وتسربها إلى أنظف تراب.

ففي فترة الربيع المزهر والإنجازات العطرة كانت هذه الاتحادات والمنظمات مرجعية ذات فعالية لأي قرار أو سياسة تنعكس على الوطن وعلى منتسبيها، قد يكون من أسباب فعاليتها آلية تشكيلها عبر الانتخابات أو عبر أحزاب بينها تقارب كبير في الفكر والممارسة، قبل أن يحصل الكثير من الفراق، وتتسلل فئات طبقة مديرين أصبحت طريقة التعيين العلني أو المغطى أساساً لاختيار هذه الكوادر، التي يجب أن تكون الكابح لأي خروج عن المألوف أو انتقاص من حقوق مكاسب منتسبيها، وهذه التعيينات أصبحت كابحاً مضاداً لأصحاب الحقوق ميالاً لأصحاب الإدارة، همّهم مصالحهم بعيداً عمن يمثلون، وأصبح عمل هؤلاء اقتطاع ولو جزء يسير من المصالح المالية والمادية كل بحسب موقعه، هذا ما ترك الباب مفتوحاً لاستشراء الفساد وقضم مصالح وحقوق ومكاسب ناضل كثيرون سنوات حتى أصبحت متاحة، لكن بتحييد فاعلية القوى التي كرست أداة مراقبة ومتابعة ومواجهة، أصبحت أغلب المناصب الإدارية متحررة من المراقبة، وبذلك تحولت هذه الاتحادات لديكورات، إما معينة من قبل الإدارات أو منتخبة بطريقة التعيين، وهذا ما أفقدها فاعليتها لغياب التمثيل الحقيقي، وكان الاختبار الفاضح لها هو النتائج الكارثية للنهج الاقتصادي الذي سبق الأزمة على الرغم من التوافق في المؤتمر القطري العاشر على ما سمي اقتصاد السوق الاجتماعي، الذي حاول دمج مزايا اقتصاد السوق مع الاقتصاد السابق المتجذر الذي أوصل البنى لمرحلة جيدة فاعلة، وأوصل البلد إلى مستويات نمو وتنمية مرتفعة، ولو استمر العمل بوطنية وبشرف وكفاءة وبواقعية حقيقية كان قادراً على الوصول إلى الأجود والأكثر فاعلية والقرب من مستوى البلدان المتطورة، لكن الفعل كان عكس التنظير، بل كان يخالفه بسياسات أبعد ما تكون عن أي نهج واضح ورؤية حقيقية لا يشبه  الرأسمالية أو الليبرالية، وإنما يفوقهما وحشية وطمعاً، يعتمد احتكار القلة، بعيد عن المنافسة، يقتل دور الحكومة أو يفقدها فاعليتها من أجل بعض المتنفذين المسنودين، الذين وجدنا دور أغلبهم المتاجر أو القاتل خلال الأزمة المرعبة، وهم جزء من مسبباتها، كل ذلك دون أي مواقف فاعلة تكبح سلبيات هذه السياسات. هكذا كان لهذه السياسات التي مرت، بأغماض عيون البعض، وكلام فارغ للبعض، نتائج أجهضت أغلب ما حصدناه من مكاسب ومزايا توازنات وصلابة بنيان نتيجة النضال والعرق والكد من العمال والفلاحين، فعاد الصراع الطبقي يطفو بشكل جديد ونتج عنه مخاطر كثيرة، ففئة قليلة تحصد المزايا والاستثمارات، وفئات تسلب منها مكاسب سنوات جهود ونضالات، وشخصيات فاعلة سابقاً تسلب منها المزايا الاقتصادية والمكاسب التفضيلية، كل ذلك قادنا إلى صراعين، أفقي بين فئة كانت منصهرة شبه متجانسة تحولت إلى شفا خط الفقر تتتوسط فئة كبيرة عاطلة عن العمل تحت خط الفقر المدقع، وصراع عمودي بين فئتين من التجار والبرجوازيين فئة تحتكر، وفئة استمتعت بالمزايا تريد المزيد من الكعكة، وللأسف لكل مربطه وسنده، كذلك فقدت التنمية المتوازنة الكثير من أسسها وخطواتها فدخلنا في طور المدن المنسية وزادت الحاجات التنموية للمناطق الشرقية وحتى الساحلية، وحصلت هجرات كبيرة نحو محيط المدن الكبرى.

وكلنا  يذكر القانون 17 الذي طالما واجهته الصحافة الأحزاب وهذه الاتحادات، وهو الذي يسلب حقوق العمال ويعيد العصا للرأسمالي أو صاحب المعمل، وكأن كل النضالات العمالية والمكاسب ذهبت هباء لم يسمع متخذو القرار أي صيحة أو أعتراض، ولم يفعل المسؤول الذي عليه أن يراقب نهج اقتصاد السوق الاجتماعي شيئاً رغم أن قواعد حزبه كلها ضد السياسات التي تخالف هذا النهج، وكذلك كان لموضوع الحاويات في مرفأي طرطوس واللاذقية ومعمل أسمنت طرطوس التي جوبهت برفض كل المؤسسات، ولكنها فرضت بإرادة هذه الاتحادات ومن يمثلها، وكذلك سلبت المزايا الصحية والتعويضات وساءت جودتها وسرطنتها بالفساد.

ولم نجد أيضاً أي فعالية لمواجهة قرارات تحرير أسعار السماد والبذور والأدوات واحتكارها من بعض الأشخاص، وتحديد سعر المحاصيل وكيفية شرائها من قبل الفلاحين، حتى عندما قيدت بعض الزراعات، وعدم القدرة على وضع روزنامات لاستيراد مواد تنافس المنتجات السورية ولو عن طريق التعويم، فكانت هجرة مئات الآلاف من الفلاحين لأراضيهم وتقلص الإنتاج وخلخلة الأمن الغذائي الذي صرفنا مليارات للوصول إليه.

إن دولة المؤسسات الفاعلة والقوية المحمية في ظل دستور متفق عليه وقانون لا يستطيع أحد تجاوزه هي الكفيلة بعودة  بلادنا إلى ما نريده وأردناه، وإن التمثيل الحقيقي لهذه الاتحادات كفيل بتصحيح جزء من الاعوجاج، وإعطاؤها نوعاً من الاستقلالية يعيد الروح لدورها المطلوب حماية حقوق منتسبيها بالشكل المنسجم مع العقد الاجتماعي بين الشعب السلطة، بما يحقق العدالة ويعيد القوة والمناعة لسوريتنا المتجذرة تاريخياً والتي وصلت إلى ما وصلت إليه بفضل التعب والجهد والتخطيط، ولو حصل ما حصل عندنا لأي دولة في العالم لانهارت، ولكن العمق الاجتماعي والمكاسب التاريخية والتجذر بالأرض والوطن، والعيش المشترك لآلاف السنين بين مختلف الألوان حمى هذا البلد وحمى أرضه وعرضه وشرفه……..

المسؤولية مشتركة فيما نحن عليه، وفيما سيكون، ولكلّ دوره، وكل تخاذل سيكرس ما وصلنا إليه ويعرقل عودة الروح ومداواة الجروح…

العدد 1107 - 22/5/2024