سهام جلاحج.. وجه مشرق آخر يغيب

اختطف الموت منذ أيام الرفيقة المناضلة سهام جلاحج، بعد صراع مرير مع المرض.. كان هذا يوم حزن وأسى بالغين لكل من عرفها وعمل معها.

سهام المحبة للحياة والمناضلة بصمت، التقيتها وعائلتها عامي 1967-1968 بعد أن أتيت إلى سورية. أتذكرها الآن رغم تراكم الأعوام واضطراب الأحوال وابتعاد إحدانا عن الأخرى.. وجهاً مضيئاً ينضح بالوداعة والنبل والشفافية، متقدة الذكاء، دقيقة الملاحظة، وفي الوقت ذاته تتمتع ببساطة متناهية وتواضع جمّ.

كان حب الحياة ينبض في عروقها، أمينة للمبادئ التي تربت عليها.. تلقت دراستها الابتدائية والثانوية في مدارس دمشق الرسمية، ثم التحقت بدار المعلمات، وبعد تخرجها عملت سنوات طويلة في مختلف مدارس دمشق الرسمية منها والخاصة، فكانت خير مربية للأجيال.

انتسبت إلى صفوف الحزب الشيوعي السوري وهي شابة يافعة، وساهمت بمختلف النشاطات التي قامت بها منظمة الحزب وخاصة في مجال المعلمات.

ناضلت بدأب وتفان في الإسهام بالدفاع عن حقوق المرأة وكل أشكال التمييز ضدها.

ومن حسن حظنا أننا كنا والعائلة جيراناً في حي المهاجرين بدمشق ومتقاربين إلى أبعد الحدود في حومة العمل السياسي. فقد كانت أخوها الأكبر نبيه، الشيوعي، أول من كُلف بالاتصال بي بعد عودتي، وازدادت علاقتنا وتوطدت مع العائلة عبر السنين الطويلة، وكانت سهام وأختها هيام وأمها قريبات جداً منا.

كانت سهام تملك صوتاً رخيماً ولا أحلى، وفي بعض المناسبات الوطنية والأممية التي كان الرفاق يحيونها في بيوتنا، كنا نهيئ أنفسنا لسماع شيء من صوتها، خاصة أغنية (قدّك المياس يا عمري)، كانت تغنيها بصوت جميل يفوق الوصف، إضافة إلى بعض الأغاني التي تعبر فيها ببراعة عن هموم شعبنا وشواغله وعن أشواقه وأحلامه.

في هذا الحي بالذات، التقيت حينذاك بعدد من الشابات الرائعات المنحدرات من عائلات شيوعية، وشكلنا معاً تنظيماً نسائياً متميزاً، كانت أبرزهن على الإطلاق المناضلة بصمت وإخلاص ونكران ذات لا حدود له الرفيقة زكية جلاحج، وسعدية أخت الرفيق مراد يوسف، وسميرة إسماعيل ووفيقة الحافظ، وعناية قوشحة، ورويدة الكردي، وهناء وسناء الساطع، وغيرهن كثيرات جداً لعبن فيما بعد دوراً هاماً ومؤثراً في حياة منظمة دمشق، وصارت تربطنا علاقات حزبية وإنسانية عميقة جداً، وصرت أعتبرهم عائلتي الجديدة بعد أن اضطرتني الظروف القاهرة لأسباب سياسية إلى الابتعاد عن وطني الأول وكل أهلي وعائلتي.

وبعد زواجها من المناضل المعروف بدر الطويل، تعاملت سهام مع كل المهمات الحزبية الجديدة التي كُلفت بها بجد ومسؤولية في دمشق وغيرها.

كانت أمّاً مثالية وزوجة وفية محبة.. بأي عاطفة صادقة وحب كبير كانت تتحدث عن زوجها وأولادها (أحمد وغنوة وسماح) الذين يكنون لها أعمق مشاعر الحب والاحترام، وكذلك إخوتها نبيه ونزيه وهيام، كان حبهم يملأ قلبها.. كان حضورها الإنساني دائماً مشعاً يستمد منه الآخرون الأمل.

أسهمت إسهاماً كبيراً مع زوجها، وقد حملت الكثير من صفاته من حيث التضحية ونكران الذات في العمل، من أجل وحدة الشيوعيين السوريين، والتعاون مع القوى الوطنية والديمقراطية حتى اللحظات الأخيرة من حياتهما.

وأخيراً، لن أنسى فضل عائلة أم نبيه الكريمة عليّ..

كنت قد انتخبت مندوبة إلى المؤتمر الثالث للحزب عام 1969 وكان المؤتمر سرياً للغاية، ويستغرق عدة أيام، وقد اتُخذت تدابير مشددة للحفاظ على سرية المؤتمر، خاصة بالدخول والخروج من وإلى المكان. وكان عندي طفلان (فياض وعمره 3 سنوات ونصف، وزويا وعمرها سنتان). كنت في حيرة من أمري، ماذا أفعل؟ ويجب أن لا يعلم أحد من الأقارب أو الأصدقاء بانعقاد المؤتمر. رأتني سهام على هذه الحالة، فتصرفت بسرعة واتفقت مع أمها (أم نبيه) على أن يبقى فياض عندهم، وزويا أرسلناها إلى قطنا لتبقى في بيت عائلة الرفيقة سعاد أبو عسلة، وهي عائلة شيوعية قديمة (تحية الوفاء لهم)، عندما عدت من المؤتمر بعد أيام لا أذكر بالضبط كم كانت، ذهبت فوراً إلى بيت أم نبيه.. قطعت الطريق بسرعة كبيرة، رأيت من بعيد في أعلى الطلعة أم نبيه تجلس أمام نافذتها العالية وهي تحضن فياض وتمسكه بيديها خوفاً عليه من مكروه وهو يتطلع إلى الشارع.

في اليوم الثاني ذهبت إلى قطنا لإعادة زويا إلى البيت، ففوجئت برفضها وتمسكها بالبقاء لدى العائلة الكبيرة التي نالت منها الاهتمام الكبير، ما لم تجده في بيتنا أو في المكان الذي نعقد فيه الاجتماعات. أمثال هذه العائلات، وهي كثيرة في الحزب، هي التي احتضنت نشاطاته من أجل استمراره طيلة التسعين عاماً المنصرمة.. فتحية من القلب لهم جميعاً حيثما وجدوا.

وداعاً سهام..

ستبقى سهام ورفيقاتها سميرة إسماعيل وجميلة حيدر وحياة قوشحة ورويدة الكردي وكل الرفيقات اللاتي فقدناهن في قلوبنا.

تعازينا القلبية لعائلة سهام الكريمة وعائلة زوجها وأولادها الأحباء أحمد وغنوة وسماح!

العدد 1104 - 24/4/2024