على إيقاع الحرب الطاحنة.. الحكومة لم تضع خطاً أخضر لمسار الاقتصاد

يبدو الاقتصاد محكوماً بإيقاع الحرب، ويسير وفقاً لتداعياتها، إذ لايوجد تخبط في إدارة العمل الاقتصادي، كما يعتقد البعض، بل أن مسار الحرب يقود في ظله مسار الاقتصاد، ويؤجل خطط التنمية، ويجعل المُنفَّذ من كل البرامج مرتبطاً بشكل لصيق بتطورات الوقائع الميدانية. كيف يمكن لاقتصاد يعاني من ويلات الحرب الطاحنة، أن يمتلك مؤشرات؟ وبالمسطرة ذاتها يمكن القياس، أن هذه الحرب تمنع المسؤولين عن متابعة خططهم، وتنفيذ برامجهم، فيغدو الحديث عن معدلات نمو، ونسب بطالة، ومعدلات تشغيل، ومستويات الفقر، وغيرها من المؤشرات، أقرب ما يكون إلى الجدل، ويلفه الغموض، وتثار حوله الأسئلة. وبالتأكيد هذا لا يلغي أنه يمكن الاتكاء إلى بعض التقديرات، وإلى مؤشرات تقريبية، لمعرفة جزء من الواقع المؤلم الذي نعيشه، كما أنه لا يعد مبرراً لحالة الترهل التي يعانيها الاقتصاد السوري، وانطواء عدد من المسؤولين، واكتفائهم بممارسة العمل بحده الأدنى.  

 أوقف مسار الحرب، مسار الاقتصاد الملتوي أساساً، وأجبره على حرف الطريق المخطط له، وفي مرحلة لاحقة أفشل محاولات المتابعة والاستمرارية والبقاء، فلم تنج مدينة صناعية من آثار هذه الحرب، والكثير من المنشآت سوي بالأرض، انتقاماً من اقتصاد حاول في لحظة ما أن يستفيد مما يمتلكه من ميزات، كما أن تعطل العمل التجاري، والجمود الكاسح في العمل المصرفي، يعدان من أكثر المؤشرات دلالة على توقف الحياة الاقتصادية نزولاً عند صوت الأسلحة ولعلعة الرصاص، ليتحول الأمر فيما بعد لذهنية الذبح والقتل. ايقاع الحرب الصاخب، رافقه إيقاع بطيء للاقتصاد، وانزواء وهروب إلى الظل. فالاقتصاد السوري لاينتج من مواد الحرب غير الأدوية، والأسلحة البدائية التي استخدمت في هذه الحرب، وكانت مثار عجب، فالأسمدة تحولت إلى متفجرات، و(جرات) الغاز المنزلي صارت قذائف مدافع، إذاً هي قسوة الحرب عندما تتلظى بمنتجات الاقتصاد.

وضعت الحكومة في بيانها الوزاري، رغبة في إنجاز شيء ما، وبذل الوزراء جهوداً متباينة، لتفعيل العمل، وتضييق الفجوة القائمة بين الحكومة والمواطن، إلا أن كل ما قدمته الحكومة، التهمته تداعيات الأزمة الراهنة بسرعة هائلة، وجعلته أثراً بعد عين. لم تتمكن الحكومة من قيادة العمل الاقتصادي بما يتناسب مع تحديات المرحلة وخطورتها، بل ظلت لعنة العجز والتقصير تلاحقها في كل مطرح اقتصادي وتنموي. الفقراء يتزايدون، شظف العيش يتعمّق، الرغبة العارمة بالهجرة تتحول إلى واقع حقيقي، لايوجد ما يمنع التمسك بالبقاء، والأخطر من ذلك كله، الانزياح الطبقي المرعب الذي حملته السنوات الأربع الماضية، والفجوة العميقة التي سيتركها على الصعيد المجتمعي. هذا الواقع دفع بالحكومة إلى الظل، ولم يترك لها متسعاً من الوقت لتعمل، أو ليبذل وزراؤها ما يجب من عمل. إذ باتت حالة الاستكانة تخيم على العقول، ولا أحد يسعى للعمل كما يطلب منه، وثمة حالة من التقوقع، وهذه ستولد الطاقة السلبية المخيفة للجميع، إلا لدى قلة مازالت محكومة بالتفاؤل والتصميم، ومصرة على أنها قادرة على فعل شيء يحرك المياه الراكدة. كالصناعيين الذين دُمرت منشآتهم، وسرقت آلاتهم، فأسسوا من جديد ورشاً صغيرة، أقل من عشرة عمال، وتابعوا عملهم، وحافظوا على مهنتهم، وعمالتهم، بل أن عدداً منهم يسعى للتصدير، لاستعادة أسواق كادت أن تخسرهم، وتبحث عن البدائل الأخرى. السؤال لماذا المسؤولون لا يقتدون بمثل هؤلاء؟ ولماذا لا يتمسكون بعملهم كالفلاحين، الذين رغم التحديات الهائلة التي تقف في وجههم، فإنهم زرعوا أراضيهم، وهم ينتظرون حصاد غلتهم؟ فما هي الغلة التي سيحصدها مسؤول، أغلق الباب على نفسه؟ وما الحصاد الذي سيجنيه مسؤول أخر، لم يزر منشأة، أو مؤسسة، أو دائرة تابعة له؟ هل حجم الخطر الذي يتعرض له هؤلاء المسؤولون أكبر بكثير من حجم المخاطر والتحديات التي تواجه المنتجين؟ قطعاً لا، بل إن المقارنة هنا فيها ظلم للمنتجين. 

لم يتمكن الاقتصاد السوري، من إنعاش الحرب وتمويلها، كما لم تشفع هذه الحرب للاقتصاد أن يستفيد منها لينهض ويتجدد، ويتطور، فاقتصاد قائم على الزراعة والصناعة وبعض الخدمات، بالمعنى الضيق، ماذا يمكن أن تقدم له الحرب الطاحنة الدائرة في عمقه؟

 أتت الحرب على الاقتصاد، ولم تتمكن الحكومة وفريقها الاقتصادي من خلق مسار آخر، أو وضع خط أخضر يحمي الاقتصاد من شرر الحرب، فالمنشآت المشتتة، والموزعة عشوائياً من الناحية الجغرافية كانت المشكلة ومازالت العقبة حتى الأن. وهو ما لم تدركه الحكومة، ولم تتعامل على أساس معطياته المخيفة. وإذا كانت دوافع الحروب اقتصادية، فإن اقتصادات كثيرة تنمو على حساب الحروب، إلا لدينا، إذ لم نتمكن من الاستفادة من حالتي الحرب وما قبلها.

العدد 1107 - 22/5/2024