صناعة الفجوة التـكنـولوجية في الصناعة السورية

 هناك من صنع الفجوة التقانية في الصناعة السورية، وساهم في تعميقها. وهؤلاء لايمثلون الأيدي الخفية للسوق، بل اتخذوا مواقف، ووضعوا خططاً، لم تعلن، لعرقلة الجهود الرامية لتحديث خطوط الانتاج، ونقل التكنولوجيا الحديثة للصناعة. والآن تدفع الصناعة الوطنية الثمن الباهظ لهذا الخطأ التاريخي المقصود، وغير المبرر، الذي جعل قاطرة النمو مُهملة، وبحاجة لقاطرة جديدة تقود النمو، وتقطر التنمية في سورية.  

تعاني الصناعة الوطنية من مشكلات عدة، وتواجهها تحديات كثيرة، وساهم عدم الجدية الكاملة في معالجتها، وتركها تتفاقم، في تراجع نسبة مساهمة الصناعة بالناتج المحلي الإجمالي إلى 8%، بينما كانت 13% في النصف الثاني من العقد الماضي، و24% قبل الانفتاح الاقتصادي مطلع الألفية. ويعد التحدي التكنولوجي أبرز التحديات أمام الصناعة،  إذ لم تجد كل الحكومات المتعاقبة، ووزراء الصناعة السابقين حتى الأن، طرقاً معقولة، لنقل التقانة الحديثة لصناعتنا، ولم يبذلوا جهوداً كافية، لتأمين التمويل اللازم لهذا الهدف الاستراتيجي الذي تبدو الصناعة بحاجة ماسة إليه. يخطئ من يظن أن الأزمة في سورية، هي السبب الرئيس في خلق مشكلات الصناعة، إذ أن مشكلات الصناعة وتحدياتها، عمرها عشرات السنوات، وباتت أكثر وضوحاً بلحظة الانكشاف ورفع الحماية، وفتح أبواب الاقتصاد على مصاريعه. ومن يتذكر الخطط الحكومية، لاسيما ما تضمنته الخمسية العاشرة (2006 ـ 2010) يكتشف عدم الرغبة وغياب الإرادة في حل العقد الصناعية الكثيرة والكبيرة، ويجد التساهل في عدم وضع الصناعة على سكتها الصحيحة، وترسيخ مفهوم اقتصادي حاول بعض صناع القرار الاقتصادي مسه واستهدافه، ومرغه في الطين، ودفنه تحت الرماد، وهو أن تبقى الصناعة محافظة على دورها الاستراتيجي كقاطرة للنمو، وأحد جناحي التنمية الأساسيين إلى جانب الزراعة. ويقر وزير الصناعة كمال الدين طعمة، في لقاء مع وسائل الاعلام المحلية مطلع الأسبوع الجاري، بمسوؤلية الإدارات السابقة عن غياب التقانة الحديثة عن الشركات والمعامل، دون أن يقدم أسباباً لهذا، رغم أنه شغل منصب مدير عام المؤسسة العامة للصناعات الكيميائية. يدرك طعمة المشكلة الحقيقية التي تواجه الشركات، ويعي تماماً أن غياب التكنولوجيا الحديثة عن شركاتنا لا حل له سوى استقدام هذه التكنولوجيا أو تغيير نمط الإنتاج (سيرونيكس أنموذجاً) وبالمسطرة ذاتها يمكن القياس على شركة الإطارات في حماة وفقاً لما قاله ل (النور)، التي لن تدور آلاتها بوضعها الراهن، إذ لم يعد هناك جدوى اقتصادية ترجى من شركات صارت آلاتها خارج التطور التكنولوجي، ومنتجاتها لا تتناسب مع التطورات الهائلة على المستوى العالمي في تصنيع السيارات.

 توقف تطوير خطوط الإنتاج، ولم يستطع مشروع الاستبدال والتجديد من تحقيق الفائدة  القصوى من المنتج الصناعي المحلي، لاسيما في الصناعة النسيجية، التي تركز على بيع المنتج النسيجي كخيوط دون تأسيس صناعات ألبسة تحقق القيم المضافة المنتظرة من زراعة القطن أساساً. والواضح أن عدداً كبيراً من المسؤولين عن القطاع العام الصناعي تخوفوا من إدخال التكنولوجيا للشركات، وثمة عمال توجسوا من هذا الأمر خوفاً من فقدانهم لوظائفهم، وفرص عملهم. إلا أن المحظور وقع، والتخوف تحقق، والتوجس تجسد، بأشكالهم المختلفة، فوصلنا إلى النتائج التي خشينا منها بطرق أخرى. إذ غزت أسواقنا السلع ومنتجات أخرى مطورة، وعصرية، وبكلف إنتاجية منخفضة، بينما منتجات شركاتنا الصناعية ما زالت محكومة بعقلية سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته. ما يخيفنا أكثر تلك الصورة المشوهة للمشاريع الاستثمارية المشملة وفقاً لقوانين وأنظمة الاستثمار، التي لا تحاكي التكنولوجيا الحديثة بالمعنى الحقيقي، وقلة قليلة جداً من هذه المشاريع اعتمدت على التقانة الحديثة، بينما جلها استند إلى الذهنية التقليدية ذاتها، كما تصنيع الألبان والأجبان على سبيل المثال، وشجعت الحكومات آنذاك هذا التوجه، لأن هدفها الأساسي كان تشميل المشاريع، وإحصاء عددها المتزايد، ورأسمالها، وفرص العمل التي يمكن أن توفرها. ولم تشترط الأنظمة على المستثمرين لتشميل مشروعاتهم إدخال مكون تكنولوجي كشرط لازم لا بد منه، هل يتذكر الجميع كيف كانت تنفذ عمليات الفساد المنظم لاستيراد آلات مستعملة؟ فحولت معظم مشاريع الاستثمار وغيرها البلاد إلى سكراب، كان هذه السكين التي طعنت الصناعة الوطنية خلسة.

تتزايد الفجوة التكنولوجية في الصناعة السورية، ولم تتبن وزارة الصناعة خطة واضحة بإطارها الزمني، لردم هذه الفجوة، بل اتجهت نحو مشاريع طرح الشركات على الاستثمار، والتذرع بقلة الموارد المالية، وأوليات المرحلة، وغيرها من الأسباب التي أدت إلى حالة التخلف العلمي الذي يعاني منه العامل في هذا القطاع، وابتعاد الصناعة بحد ذاتها عن التطور التقاني، رغم أنه السبيل الوحيد لإصلاح قاطرة النمو المُتعطِّلة والمُعطَّلة. إنه الحد الأدنى، المطالبة باستقدام التقانة الحديثة، واستخدامها، وتوطينها في الصناعة، لا التفكير بتصنيعها.

العدد 1105 - 01/5/2024