المواجهة المفتوحة بين روسيا والصين .. وواشنطن!

 يقول مبدأ غربي عسكري متداول (من يجرؤ ينتصر)، فبعد أكثر من عقد من الأحادية القطبية الأمريكية، بدأ الصراع بين القوى الكبرى في العالم يتخذ مسارات جديدة تتسم بحدة متواترة، لأن الولايات المتحدة تتشبث بقيادة العالم وحدها من دون أن تسمح لأحد بمشاركتها في اتخاذ القرار الدولي، ورداً على ذلك باشرت خطوط التماس بين القوى الكبرى تتحرك بشكل لافت، معلنة عن بداية مرحلة جديدة من المواجهة المفتوحة بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وأوراسيا بقيادة روسيا والصين من جهة أخرى.

ويمكن القول إن عودة روسيا إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط، ترسم معالم محور أوراسي جديد ما بين روسيا والصين، ومن غير المستبعد أن تنضم إلى هذا المحور قوى أوربية أخرى باتت تضيق ذرعاً بالممارسات الأمريكية غير المسؤولة التي تسبّبت بالعديد من المآسي والحروب هنا وهناك، ومنها الحرب ضد سورية التي تخوضها واشنطن عن طريق تنظيمات إرهابية دربتها وسلحتها ودفعت بها إلى سورية لتقتل أبناءها وتدمر بناها التحتية، وبالتالي نزوح مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى أوربا وخاصة إلى ألمانيا، التي تسعى حالياً إلى إعادة الدفء إلى علاقاتها مع روسيا في سياق استراتيجية مستقلة عن سياسة المواجهة والعقوبات التي تمارسها الدول الغربية الأخرى ضد موسكو، وذلك وعياً منها بالتحولات الحاصلة في العالم على مستوى موازين القوى المختلفة.

من الواضح أن المحور الروسي – الصيني يعمل على تحريك الخطوط على مستوى مسرح إقليمي ودولي ظل ساكناً نتيجة للسكوت الغربي، وإصرار الولايات المتحدة على إدارة الأزمات بدلاً من العمل على حلها.

ويرى العديد من المحللين أن انتشار تنظيم داعش الإرهابي أتاح الفرصة للأطراف الإقليمية والدولية المتنافسة نوعاً من مشروعية التدخل في المنطقة من دون حرج، الأمر الذي يطرح تساؤلات جدية حول النوايا الحقيقية لكل هذه القوى المتدخلة فيما يتعلق بالقضاء على هذا التنظيم الإجرامي.

فمن جهة تسعى موسكو جدياً إلى محاربة الإرهاب في سورية بعد أن لمست أن التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن لم ينجز شيئاً عملياً في هذا المجال خلال أكثر من عام، إلى جانب أن هذا الإرهاب يستهدف روسيا مستقبلاً، وهي تنسق مع دول أخرى في المنطقة مثل إيران ومصر والجزائر، وتتعامل بحذر مع تركيا وإسرائيل اللتين تربطهما بواشنطن مصالح استراتيجية كبرى.

وتحاول الصين الاستفادة من التدخل الروسي في شرق المتوسط للعمل على تشتيت الانتباه والتركيز الأمريكي على منطقة بحر الصين التي تتطلع واشنطن إلى التغلغل فيها، ولهذا فإن توقف حاملة الطائرات الصينية في ميناء طرطوس ليس أمراً عبثياً، بل جاء لينقل رسالة مشفرة للولايات المتحدة بأنها لا يمكنها الوجود في (مطحنة الدقيق وفرن الخبز) في آن واحد، وبالتالي ليس بمقدورها أن تقفز على آلاف الأميال الفاصلة بين شرق المتوسط وبحر الصين، أو أن تقضم جغرافياً الدول بكل تعقيداتها من دون أضرار جيواستراتيجية بمصالحها الحيوية الكبرى.

كذلك يرى المراقبون أن إطلاق روسيا لصواريخ (كاليبر) من البحر الأسود نحو مواقع داعش الإرهابية في سورية يمثل رسالة من طرف روسيا وحليفتها الصين، تحذر واشنطن من أن منطقة أوراسيا لم تعد تحت هيمنتها، الأمر الذي يؤكد أن التحالفات الجديدة مثل (شنغهاي) و(البريكس) و(المحور 4+1) ستقف سداً منيعاً في وجه حلف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

وبناء على ذلك، فإن التدخل العسكري الروسي في سورية لا يأتي فقط بهدف دعم حليف تقليدي لموسكو في المنطقة العربية، بل يجسد رداً عملياً حازماً من الكرملين على محاولات واشنطن اللعب في حديقتها الخلفية في كل من أوكرانيا وجورجيا، كما أنه يهدف إلى المحافظة على مصالحها المتعلقة بسوق الغاز في العالم، لاسيما بعد الاكتشافات الكبرى لحقول الغاز في شرق المتوسط. ومن غير المستبعد في هذا السياق أن تحظى روسيا الاتحادية بدعم خفي من طرف ألمانيا التي لا تحبذ تهميش دول شرق ووسط أوربا في معادلة حرب الغاز المقبلة، التي يمكن أن تستفيد منها دول الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط.

ويذهب بعض المحللين السياسيين وخبراء الاقتصاد إلى الاستنتاج بأن الولايات المتحدة مدفوعة برغبة المحافظة على مصالحها ومصالح حلفائها في بحر الصين، هي مضطرة الآن إلى غض الطرف عن التحركات الروسية في شرق المتوسط، بسبب الأهمية التي تمثلها الصين وجوارها الإقليمي للاقتصاد العالمي عامة، وللاقتصاد الأمريكي خاصة، وبالتحديد في هذه المرحلة التي تسعى فيها دول عديدة بقيادة روسيا والصين من أجل تخليص الاقتصاد العالمي من هيمنة الدولار الذي يمثل الأداة الكبرى للقوى الأمريكية في العالم.

باختصار، لابد من تأكيد أن مقولة (نهاية التاريخ) التي نظّر لها فوكوياما قد سقطت وانتهت مع بداية تاريخ جديد تكتبه قوى متعددة، كما أن ثنائية قطبية جديدة بدت ملامحها ترتسم بين روسيا والصين من جهة، والولايات المتحدة من جهة ثانية، وبالتالي سيكون للمحور (الأوراسي) بقيادة روسيا والصين دور مؤثر وغير مسبوق على مستوى العالم، في مرحلة زمنية لافتة يغلب عليها الضعف العربي. أما ما يتعلق بقرار واشنطن (إرسال قوات خاصة أمريكية إلى سورية)، فهو يهدف إلى المساهمة في تقسيم سورية إلى مناطق نفوذ، وفي تأجيج نار الحرب الإرهابية بالوكالة عليها لإسقاطها من المعادلات الإقليمية والهيمنة عليها

العدد 1105 - 01/5/2024