داعش وتدمير البناء الاجتماعي للمحافظات الشرقية

 عملت داعش منذ اليوم الأول لاحتلالها أجزاء من المحافظات الشرقية على تفكيك النسيج الاجتماعي والروابط الاجتماعية للسكان في تلك المحافظات، وزرع الأحقاد والخوف والرعب والشك في أقرب المقربين، فاستخدمت عاملين هامين لتنفيذ هذا المخطط الجهنّمي وهما: المال، والغلوّ الديني. فبالمال شُريت النفوس المريضة في تلك المجتمعات، فقدمت مئات الدولارات للفرد الواحد، رواتب شهرية بعد أن جنّدتهم جواسيس ودعاة لها أو إعلاميين محليين يبثون فكرها ويبثون الفرقة والشقاق، باسم الدين، في العشيرة الواحدة، حتى في داخل الأسرة الواحدة.

كما استخدمت المال في تجنيد فتيات وشباب، خاصة العاطلين عن العمل، في صفوف مقاتليها، وفي الحواجز التي تقيمها، والأغرب، استخدام أطفال لم يبلغوا سن البلوغ في العمليات الانتحارية، أو في الهجمات القتالية الشديدة على المدن والمطارات والحواجز النظامية دون الاكتراث بهم سواء ماتوا أو بقَوا أحياء. وتقديم إغراءات مالية ومنها بالعملة الصعبة لأولياء هؤلاء المراهقين، بعد أن يجري حقنهم عقلياً باللغو الديني، أو استخدام المواد المخدرة في دفع هؤلاء إلى العمل الانتحاري.

وفي الجانب المالي جرى التضييق والتشديد على الموظفين، خاصة المعلمين في المدارس الرسمية في استلام رواتبهم، وذلك بفتوى تقتضي باعتبار رواتب الدولة السورية حراماً، ومن يأخذها كافراً، مما أبقى شريحة واسعة من المعلمين والموظفين غير قادرة على تكاليف المعيشة لعدم وجود مورد رزق غير الراتب. ثم بدأت بالضغط المالي عليهم من خلال وضعهم بين خيارين، إما الجوع أو القبول بداعش والانضمام إليها. بعد أن يبايع داعش على السمع والطاعة وتنفيذ أوامرها.. عندئذ يحصل على راتب من داعش، ويكون ضمن تشكيلاتها وفي حلقات تدريسها، أو في الوظائف التي تقررها، كما يُخبّر بأنه قد يذهب إلى القتال في أية جبهة سواء في سورية أو العراق أو أي مكان تختاره داعش.

وقد رفض الغالبية العظمى من المعلمين طلب داعش هذا، مما عرضهم للعوز والجوع والعمل اليدوي الشاق، وقد وضع هؤلاء تحت رقابة داعش الشديدة، والتهديد المستمر بالجَلد أو الحبس في أقفاص حديدية أو قطع الرأس. وقد أغلقت داعش كل المدارس الرسمية، ومنعت إعطاء المناهج الدراسية المقررة من الدولة، واعتبرت بعض المناهج كفراً مثل تدريس الفلسفة أو الكيمياء أو الحقوق وغيرها، ومن يقم من المدرسين أو المعلمين بتدريس بتلك المواد سراً يكن مصيره قطع الرأس والجلد.

ولزيادة الجهل في المجتمع أقامت مدارس خاصة بها ووضعت مناهج لها تتميز بعملية تجهيل المجتمع من خلال إلغاء مواد ضرورية وهامة، وتكريس التطرف والغلوّ في الأجيال المستقبلية، مع زرع علوم تتسم بالتطرف والحقد الطائفي والمذهبي والعرقي.

واستخدم المال في زرع الشك داخل المجتمعات وفي الأسرة الواحدة، فقد بات الابن يخشى من أبيه، وكذلك العكس في خشية الأب من ابنه، والجار من جاره، والأخ من أخيه، وحتى بات مثل (للجدران آذان) يكاد يسود معظم المناطق التي احتلتها داعش وفرضت عليها سيطرتها، فأي معلومة مضادة لداعش تنقل إلى الحسبة أو إلى الأمن الداعشي، وهذا يعني الجلد أو قطع الرأس.. فأصبح الخوف والريبة والشك يسودان تلك المجتمعات بعد أن كانت اللحمة الاجتماعية فيها صلبة ومتينة.

كما استخدم الغلو الديني في تفكيك الأسر والمجتمعات السكانية، فمُنع التواصل الاجتماعي والتراحم والاجتماعات واللقاءات والزيارات الأسرية، خوفاً من أي حركة ضد داعش، وكذلك ظهر الخوف من نقل أي موضوع يتطرق لأساليب داعش الدينية، أو ينتقد طريقتها أو أسلوبها الديني أو بتفنيد مزاعم داعش الدينية، أو يُكذّب دعاتها ومشايخها، لأن مصير من يقوم بهذا الفعل هو العذاب والجلد وقطع الرأس. كما أبدلت الكثير من العادات والتقاليد وزوّرتها، وعملت على إحداث انقلاب اجتماعي في القرى والمدن، ومنها إسقاط هيبة كبير القبيلة أو الأسرة واحترامها، وإحلال أمراء أجانب بدلاً عنهم، أو أمراء من أراذل القبيلة أو الأسرة، خاصة من لهم سوابق في الإجرام والمخدرات والأعمال الشاذة. وكذلك أُهين الرجل أمام أسرته، فالمرأة تُجلد وتضرب بسبب مخالفتها للتعليمات الدينية المتطرفة التي تفرضها داعش على السكان، فلم يعد الزوج قادراً على حماية زوجته أو ابنته من تصرفات داعش، كما زُوجت بالمال والتخويف العديد من الفتيات لمرتزقة أجانب يعملون مع داعش.

إن ما تقوم به داعش من تدمير للبناء الاجتماعي في المناطق الشرقية، غايته بناء مجتمع هش متردد خائف عميل جاسوس، تتمكن من خلاله داعش بالاستمرار في سيطرتها على تلك المناطق الغنية بثرواته النفطية والزراعية والحيوانية.

العدد 1105 - 01/5/2024