إلى أين أيتها الشبيبة؟!

برز خلال الأزمة العديد من الصعوبات التي أثرت على سلوك الأفراد، وخاصة الشبيبة التي باتت تفكر بالسفر والهجرة لأنها شعرت بالعجز، أي بالعزلة، فعندما يقول شاب (أنا معزول) هذا يعني (إنني لم أعد قادراً على الاتصال بالمجتمع، وإنني عاجز عن فعل أي شيء تجاه هذه المسألة).

وقد كان ماركس من الأشخاص الذين روّجوا لهذا المصطلح (العزلة)، في إشارة إلى نظام اقتصادي كان العمال بموجبه معزولين عن ثمار جهدهم، نظراً إلى إنتاجهم الذي كان يباع من قبل صاحب المصنع.

وأكد الماركسيون المعاصرون: بأن العزلة هي صرخة الناس، وخاصة الشبيبة الذين يشعرون بأنهم ضحايا القوى الاقتصادية العمياء التي تخرج عن سيطرتهم، إنها تعني الشعور بالإحباط لدى الناس العاديين الذين أبعدوا عن عمليات صنع القرار.

وهكذا فإن العزلة هي الشعور بالعجز الاقتصادي والسياسي، فالسلطة بمؤسساتها تمارس قواها بلا رحمة، ولا يستطيع الإنسان العادي، أن يفعل شيئاً لتغيير اتجاهها أو تغيير سرعتها، إذاً أصبح الشاب مشاهداً يراقب موقفاً يتطور، ويشعر بأنه عاجز عن التأثير فيه بأية طريقة.

وكنتيجة للوضع الاقتصادي الذي مرّت به البلاد بسبب الأزمة، انتشرت البطالة بكثرة، وهي تعتبر هجوماً خطيراً على إنسانيتنا، فتركت أضراراً عظيمةً و شعوراً بالمرارة والألم لدى الشاب الذي أجبر على ترك عمله، منها ما هو جسدي لحق به من جراء الجوع أو عدم الراحة، ومنها الآخر عقلي نتيجة الفراغ والضجر، ولكن يبقى الضرر الروحي الناتج عن حرمانهم من فرصة المساهمة في الحياة العامة وخدمة المجتمع هو الأشد ألماً، إنها خبرة مروعة عندما يسمع الشاب وهو في قمة عطائه من يقول له: (إنك زائد عن الحاجة، أو المدير لا يرغب بوجودك)، والأسوأ عندما يبدأ الشاب يعتقد بأنه غير مرغوب بوجوده، فتبدأ الشبيبة تعيش في خوف من أن تجبر على ترك عملها، وهنا تدخل المنافسة السلبية والأساليب الملتوية لكي يحافظ كل فرد على عمله بإبعاد زميله، وبهذا نكون حجر عثرة في تذليل الصعوبات التي يمر بها الوطن، والشاب الذي يفشل في إثبات وجوده لأن ليس لديه من يدعمه، يفكر بالهجرة والسفر كي يؤمن قوت يومه، وبالتالي يكون الوطن هو الخاسر الأكبر لأننا لم نتمكن من استثمار رأس المال البشري بشكل صحيح وإيجابي.

وهنا يدخل المجتمع في اختبار لإنسانية أفراده بالكيفية التي يعامل بها الفرد أعداءه، فنضج المجتمع وإنسانيته يقاسان بدرجة الكرامة التي يؤمنها هذا المجتمع للمستاء والعاجز.

إن تاريخ العالم كان وما زال قصة الصراع بين حق كل فرد وحق الجماعة، وعندما تتضارب حقوق بعض الناس مع حقوق البعض الآخر نصبح عندئذ أمام معضلة أخلاقية صعبة.

هذا ما أكد عليه كينث هانس، رئيس مجلس إدارة شركة سرفس ماستر المتحدة: لست ملتزماً باستخدام الناس لإنجاز العمل كغاية، بل بالأحرى باستخدام العمل كوسيلة لمساعدة الناس على تنمية قدراتهم الشخصية.

وهذا يتطلب أن يزرع الإنسان بداخله مواقف إيجابية من العمل لكي يستمتع بما يقوم به، لأن العلاقات الصحيحة والسليمة أثناء العمل مهمة بنفس المقدار، وقد نجد في الكثير من الأوقات بأنه لدى الإدارة والموظفين أو العمال دوافع وأهداف قوية للعمل، ومع ذلك يشعرون في أعماقهم بعدم الرضا لأن الطرفين في حالة خصام مع بعضهما البعض.

لذلك من الضروري أن نسعى لتوفير الاحترام المتبادل والخدمة المتبادلة التي يترتب عليهما ثلاث نتائج على الأقل:

1. بطلان التمييز: من المعروف بأن لدى البشر جميعاً إحساساً متأصلاً بالعدالة، ففي جميع المجالات التي تدور حول العلاقات الصناعية توجد دعوات إلى تحقيق (الإنصاف)، وهناك شكاوي من الممارسات (غير المنصفة)، لهذا لا بد من وضع سلّم متدرج للأجور يمكن بموجبه تقدير الوظائف ومقارنتها وتصنيفها، أي وضع نظام متدرج يتفق عليه الجميع ويعتمد على نقاط مرتبطة بالمؤهل ومدة الخدمة ومدة التمرين والمهارة الحرفية والجهد الذهني واليدوي، والمخاطرة والمسؤولية والإنجاز والخبرة وشروط العمل، ويجب وضع هيكل الأجور بالتعاون بين الإدارة والموظفين أو العمال. وينبغي أن يشمل بصورة مثالية مجالاً كاملاً بدءاً من المديرين العاملين ومروراً بمديري الأقسام، وحتى العمال، ويجب أن يكون عادلاً (فكل فارق له تبرير منطقي)، ويجب أن يتغلب على النزاعات الناتجة عن الحسد وعلى الصراع المستمر بين المطالب والتسويات. إذاً يجب أن تكون هناك فوارق، ولكن علينا تجنب التمييز الذي لا مبرر له في الراتب أو الترقية لأنه يعتمد على الامتياز عندها لا على الاستحقاق، وهذا لا يتفق مع العدالة الاجتماعية.

2. زيادة المشاركة: من الضروري إشراك العاملين أو الموظفين في أي مشروع باتخاذ القرار وفي الأرباح، لأن نجاح ذلك المشروع يتوقف إلى حد كبير على مهارتهم وجهدهم، مع إننا نجد للأسف اليوم العديد من المديرين العاملين ومديري الأقسام يقاومون هذا ويشعرون بصورة طبيعية بأنه يهددهم. لذلك يجب على مؤسستنا أن تخرج من مفهوم المؤسسة والانطلاق نحو مفهوم الجماعة، لأن أعضاء الجماعة يحتفظون بحريتهم في الاختيار، أما المؤسسة هي مكان الإقامة أو العمل حيث يحيا الناس مع بعضهم البعض حياة مقيدة رتبها لهم الآخرون، وهنا نضع حداً أمام تطور الفرد وسعيه نحو تحقيق ذاته.

3. تأكيد التعاون: إن المفهوم الأساسي للاحترام المتبادل والخدمة المتبادلة التي نتحدث عن مضامينها من جهة الصناعة، ينبغي ألا تؤدي إلى إبطال التمييز بل وإلى زيادة المشاركة وبالتالي التعاون أيضاً.

لقد تطورت نقابات العمال لتحمي العمال من رؤسائهم المستغلين، وبمرور الوقت حققت هذه النقابات مكاسب كبيرة للعمال، في مجال الأجور وشروط العمل معاً، لذا كان تشكيل هذه النقابات ضرورياً بشكل مطلق، إذ لولا شعورها بالمسؤولية الجماعية ونضالاتها المثابرة لظل العمال ضحايا الاستغلال حتى يومنا هذا، ولكن يبقى الخلل في أن العمال يميلون إلى إعطاء ولائهم الأول إلى نقابتهم أكثر مما يميلون إلى إعطائها إلى شركتهم، وبما أننا نعيش في زمن المواجهة في صميم البنية الصناعية، بالتالي كلما نشب صراع صناعي يتم استخدام مفهوم (الربح) و (الخسارة)، لذلك نحن بحاجة إلى تطوير هياكل ونظم أفضل تعبر عن التعاون بهدف بناء مجتمع لا يكون التعايش فيه دفاعياً، بل مبنياً على المشاركة الإيجابية بين الإدارة والعمال، كي لا تصبح الإدارة والعمال أسرى سياسة المجابهة، لأن ذلك سيجلب  المتاعب للمجتمع، ولكن عندما يتعاونان في خدمة الناس في المجتمع فإن علاقاتهما سوف تتحسن، وسينعكس ذلك على المجتمع وبالتالي على نمو وتطور الوطن، من المؤكد بأنه على الشركة أن تعمل على تحقيق وزيادة أرباحها، وبالتالي يكون اهتمامها الأول موجهاً نحو الجمهور الذي وجدت (الإدارة والمساهمون والعمال معاً) لخدمته، فكما أن المسؤولية الأولى للعاملين في المشفى هي الاهتمام بمرضاهم، وللمعلمين تلاميذهم، وللمحامين موكليهم وللأخصائيين الاجتماعين خدمة المجتمع المحلي، إلخ.

أي أن المسؤولية الأولى لكل عمل تجاري وصناعي هي الزبون، ليس فقط لأن بقاء واستمرار أي مشروع يعتمد على إرضاء الجمهور، بل لأن خدمة الجمهور والمجتمع هي سبب وجود المشروع بالأصل، بالإضافة إلى أن الشركة ستحقق فائدة أفضل عندما تتحد إدارتها وعمالها ومساهموها لخدمة الناس في المجتمع بهدف تلبية حاجاتهم من مبدأ (إذا خدمتهم بصدق فسوف يخدمونك بنفس الصدق والشفافية).

إن وطننا اليوم، يخسر شبيبته من عاملين وحرفيين وصناع ومفكرين وكتاب لأنهم لا يجدون التربة الخصبة في المؤسسات التي يعملون فيها لرعاية إمكانياتهم ودعمها بهدف رفع تقديرهم لذاتهم، فلكي يتمكن أي إنسان من أن يكون مثمراً في الشركة التابع لها يجب أن يتكون لديه إحساس بالكرامة والعدالة، ولكن عندما تفقد الشركات والهيئات هذه المفاهيم تصاب الشبيبة بالعجز الأمر الذي يدفعها إلى هجر وطنها وبلدها.

لذا من مسؤولية جميع المؤسسات والشركات اليوم أن تبذل جهداً كافياً في البحث عن أفضل الطرق والأساليب الإيجابية لتحافظ على ما تبقى من شبيبة، لأن الخاسر الأكبر لمثل هذه الطاقات هو الوطن بالدرجة الأولى والأخيرة.

العدد 1107 - 22/5/2024