تناقضات الأبناء ما بين داخل البيت وخارجه

كثيراً ما نشهد شباباً يمارسون سلوكيات مخالفة تماماً لما يقومون به أمام الأهل، أو داخل البيت، إن كان لجهة العلاقة مع الآخر، أو لأشياء أخرى كثيرة لا مجال لتعدادها الآن.

أعتقد أن لذلك أسباباً جذورها عميقة، وممتدة في العلاقة القائمة بين الأهل والأبناء منذ الطفولة المبكّرة، علاقة قائمة على التشدد في فرض الأوامر والنواهي، وعدم الثقة والوضوح، وتضاؤل أو انعدام الحوار المتبادل.

وهذا من شأنه أن يُلغي أو يهدد شخصية الابن (أنثى، ذكر)، ويدفعه لأن يكون إمّا منطوياً خجولاً وغير مبادر في الحياة، وإمّا منافقاً مرائياً بامتياز، فهو يُبدي خضوعاً تامّاً، وامتثالاً إيجابياً داخل البيت، بينما يتحلل تماماً من كل التزام خارجه، فيعيش على هواه، ووفق ما يراه مناسباً لاهتماماته وميوله ورغباته، مستغلاً وجوده خارج البيت بحكم العمل أو الدراسة أو… إلخ.

من هنا يتضح لنا أسباب بعض الظواهر المتفشية بين الشباب من مثل:

أولاً- التسرّب المدرسي والتسيّب الجامعي، إذ نجد العديد من طلاب المدارس والجامعات لا يلتزمون بالدوام الدراسي من أجل الذهاب مثلاً مع شلة الأصدقاء إلى الملاهي أو الحدائق العامة، وربما يعتادون سلوكيات منافية في جزء منها للأخلاق العامة والتربية الأسرية، كالتدخين، وربما تعاطي المخدرات وقضاء أوقات ممتعة بالنسبة لهم في فضاءات النوادي التي تحملهم في نهاية المطاف إلى سبل الانحراف والتأخّر الدراسي، وربما هجر الدراسة نهائياً تنفيساً عن كبت معلن داخل البيت.

ثانياً- كثيراً ما يلوذ العديد من الأبناء الشباب ودون معرفة الأهل بأصدقاء وأقران يبدون لهم المحبة والمودة، وربما الاحترام لما يطرحون من آراء وأفكار تتمُّ مناقشتها وسط أجواء من الألفة والتناغم، ما يجعلهم يتبنون أفكاراً قد تكون مخالفة لفكر الأسرة أو انتمائها الاجتماعي والثقافي، فقط لأنهم وجدوا الصدر الرحب لاحترام تلك الأفكار والرؤى واستيعابها. وهذا سر اكتشاف الأهل انضمام بعض أبنائهم إلى تيارات متشددة في ظل ما يجري حالياً، وفق ما عبّر عنه في بداية الأحداث بعض أولئك الأهل على الشاشات ووسائل الإعلام.

ثالثاً- غالباً ما نجد بعض الأبناء الصامتين أبداً في حضرة الأبوين، لا يطرحون آراءهم أو أفكارهم، ولا يُبدون أيّ اهتمام تجاه أيّ قضية تخصهم أو تخص الأسرة، في حين نجدهم يُسرّون بأمورهم الشخصية وعلاقاتهم، للأصدقاء أو بعض الأقارب والإخوة، ولا يُطلعون الأبوين على هذه الأسرار خشية تأنيب أو لوم أو رفض، إضافة إلى تعنّت الأبوين في مواقفهم الرافضة لفكرة بلوغ الأبناء عمراً يؤهلهم للاستقلال عن وصايتهم نوعاً ما.

رابعاً- في غالب الأحيان تنشأ لدى الأبناء رغبة قوية في ممارسة كل ما يرفضه الأهل عامدين متعمدين، حتى لو كان هناك أذىً لهم، أو عدم قناعة بما يمارسونه من سلوكيات، فقط ليعبروا علانية عن رفضهم للأوامر والنواهي من جهة، وليثبتوا وجودهم، لا سيما للأهل من جهة أخرى.

 مما سبق يتضح أن الحوار مع الأبناء مهم جداً وضروري من أجل بناء الشخصية القوية، الواثقة بنفسها وبإمكاناتها اعتماداً على ثقة متبادلة مع الأهل، وعلى بوح حر وجريء للاستيضاح عن بعض القضايا والأمور غير المعروفة للأبناء. وهذه العلاقة تُبنى منذ الطفولة، وتتعمق في مراحل متقدمة عبر هامش حرية متاح أمام الأبناء إن كان لجهة التصرف، أو لجهة هامش بسيط من الحرية عند الوقوع في الخطأ، اعتماداً على مقولة (من لا يعمل لا يُخطئ)

فالاكتساب والتعلّم يتعمق من خلال الاستفادة من الأخطاء المرتكبة، ومحاولة الابتعاد عنها مستقبلاً،

إضافة إلى اعتراف الأهل بمشاعر الأبناء وأحاسيسهم، لا سيما في مرحلة المراهقة، ومحاولة تهذيبها وتقويمها بالإنصات لما يطرحونه ويبوحون به، وتقدير هذا البوح، حتى يجد الابن صدراً حنوناً يلوذ به ساعة الضجر والضيق، أو لحظة تغيب عنه الحقائق، أو لمّا يتعرّف على مشاعره المتبادلة مع الطرف الآخر.

فكم هو جميل أن يعترف الأبوان بأهمية وضرورة الحياة العاطفية للأبناء، والخوض معهم بمناقشات وأحاديث تبرهن على أهمية هذه المشاعر حتى تكون شخصية الابن سوية من الناحية النفسية والعاطفية، وتبيان أنه مع ضرورة وجود هذه الحالة، إلاّ أنه يترتب عليها- الحالة العاطفية- أن تكون دافعاً للجد والاجتهاد في الدراسة أو العمل، ولكي تكون النظرة إلى الحياة أجمل وأكثر تفاؤلاً.

إضافة إلى أمر جدّ هام، وهو التعرّف على أصدقاء الأبناء، وإقامة علاقة متبادلة بين الأهل، حتى يشعر الأبناء بالأمان من جهة، وكي يتعرف الأهل على مستوى بيئة هؤلاء الأصدقاء وأخلاقياتهم.

إنّ لمد جسور التواصل، عبر المحبة والإصغاء ما بين الأهل والأبناء، الدور الهام والرئيسي في تكوين شخصية قوية قادرة على مواجهة الحياة بكل أطيافها، ورؤية الأهل من منظور الصداقة والتبادل الحر للآراء، بدل تلك الأوامرية والسلطوية المرفوضة. هنا فقط يكون الابن هو ذاته داخل البيت وخارجه.

العدد 1107 - 22/5/2024