هل يشكل الحجاب المخرج الحقيقي للمشكلات الفعلية التي تواجهها المرأة العربية؟

يشكل ارتداء الحجاب وتزايد انتشاره موضوع نقاش سياسي وشعبي في المجتمعات العربية الإسلامية، في الوقت الذي تواجه فيه المنطقة العربية تحديات متعاظمة تهدد المنطقة ومستقبل الإنسان العربي واستقراره، منها:

الحروب المثقلة بالدماء، والإرهاب التكفيري الذي يلف المنطقة وتقوم به عصابات داعش الإجرامية التكفيرية، والصراعات الطائفية، وبؤر التوتر، والمعضلات الاقتصادية والاجتماعية، والفساد على أوسع نطاق، إضافة إلى الهجرة الواسعة، خاصة في أوساط الشباب، وقضايا الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، إضافة إلى الأمية والبطالة وتلوث البيئة، وقلة المياه والكهرباء.. إلخ.. وهذا كله لا يشغل بال المتزمتين المتدينين في البلدان العربية، للتفكير في إيجاد الحلول اللازمة لهذه المعضلات لجعل الحياة أقل وطأة.. فما يشغلهم بكل أسف هو صدور قوانين وفتاوى وتشريعات وتشجيع ظاهرات تسيء إلى العرب والمسلمين وتضعهم في مواقف حرجة. فمنذ نهاية عصر النهضة العربية على ضفتي عام 1900 كانت النقاشات الفكرية تدور حول الحرية والتقدم وإصلاح الفكر الديني وتحرير المرأة، بين العديد من أعلام النهضة العربية خلال العقد الأول من القرن الماضي. بعد أن أطلق قاسم أمين صوتاً مدوياً في كتابين، دعا فيهما إلى تحرير المرأة من ظلم المجتمع والتقاليد، وإلى خلع الحجاب، وكل ما يعيق تطورها، وسانده في ذلك قوى كثيرة من أصحاب العقول المنفتحة والنيّرة من رجال النهضة أمثال الشيخ محمد عبدو، والطاهر حداد، ورفاعة الطهطاوي، وهدى شعراوي، ونظيرة زين الدين، وزينب فواز وغيرهم الكثير، كما ساندتهم أوساط واسعة من رجال الدين المتنورين، ومن أوساط ثقافية وشعبية مختلفة رأت في دعوة قاسم أمين وأنصاره إلى تحرير المرأة عاملاً رئيسياً في تطور المجتمع وتقدمه.

وكان من الطبيعي أن يثير هذا ضجة كبيرة.. فتنطحت لهم الأصوات التقليدية مكفرة، ولم يقتصر الأمر على بعض الأقلام المصرية، بل تنطح لهم كل من حمل فكراً رجعياً ومتخلفاً في العالم العربي، بسبب الجهل وقوة التقاليد البالية التي لم يكن من اليسير التغلب عليها، إذ ارتبطت مفاهيم الشرف والفضيلة والأخلاق بتحجيب المرأة.

وفي الحقيقة كان الحجاب أيام عصر النهضة  يرمز إلى اضطهاد المرأة العربية المسلمة وإلى وضعها المتدني في المجتمع، وكانت سلطات الانتداب، خاصة الفرنسي، تنال من مكانة المرأة، وكان حجابها ذريعة لإبراز تخلف المجتمعات العربية وتبرير وصايتها عليها. ومن المعروف أن نساء أبطال الاستقلال في لبنان وسورية ومصر كن رائدات في نزع الحجاب، وقد لعبت الحركة النسائية العربية خلال النصف الأول من القرن الماضي دوراً توعوياً هاماً، وكان لسيدات مصر دور لا يستهان به في المظاهرات السياسية، وكان السفور رمزاً لتصميم النساء على التحرر ورفض القيود. فعند عودة الوفد المصري من المنفى برئاسة سعد زغلول عام 1919 ووصول القطار إلى محطة باب الحديد في القاهرة، نزل أعضاء الوفد وزوجاتهم من القطار، فنزعت صفية زغلول زوجة سعد حجابها وألقت به جانباً، إشارة إلى تحرير المرأة، وهكذا فعلت هدى شعراوي في إحدى المظاهرات السياسية النسائية، إذ خلعت حجابها وألقته في الشارع أمام الجماهير، كما برزت رائدات سوريات ولبنانيات دافعن عن حرية المرأة أمثال نازك العابد، عادلة بيهم الجزائري، ثريا الحافظ، إلفة الأدلبي، ريما كرد علي، وغيرهن كثيرات، إضافة إلى زوجات رموز وطنية كبيرة في العالم العربي.

لقد هز أعلام النهضة بأفكارهم الجريئة الوضع القائم آنذاك، وفتحوا نقاشاً كبيراً عن واقع المرأة العربية، محللين الظروف السياسية والاجتماعية السائدة، ومازال مطروحاً بالقوة نفسها والزخم ذاته في يومنا الحاضر مع تغير الأزمان والأوضاع. فقد انتقد علماء النهضة واقع الجهل الذي تعيشه المرأة في عصرهم ونادوا بتعليمها الذي هو أفضل السبل لإصلاح البلاد..غير أن مفكري النهضة الأوائل لم يتمكنوا من ضرب البنية الفكرية للمنظومة الأصولية التقليدية التي كانت تتحكم منذ قرون، والتي امتلك دعاتها قدرة على تشكيل حاضنات اجتماعية امتدت في أعماق المجتمعات العربية، وابتدعوا طرقاً وأساليب مختلفة من أجل دعم برنامجهم السياسي والاجتماعي، وذلك بالتحكم في تأويل النصوص القرآنية، وأصبحت الأفكار الأصولية واسعة التأثير، لا داخل المؤسسة الدينية فقط، ولكن في الأوساط الشعبية المرتبطة بها أيضاً، مما سهّل على التيارت الدينية المتعصبة إحياء الكثير من هذه الأفكار ضمن مفاهيم مبسطة ومجتزأة لا تمت إلى الإسلام بصلة. إذ يشعر المرء بالقلق الشديد من الردة الأصولية المخيفة عبر مؤسسات وجمعيات غيبية تحمل الجهل والتخلف والجمود للمرأة والرجل، في حين بقي الفكر التنويري عاجزاً عن تجديد نفسه وتطويرها بما يسمح له بالتصدي لمثل هذه الظاهرات الخطيرة.

لقد شكّلت نكبة أيار عام1948 صدمة تاريخية للمشروع النهضوي العربي الذي دعا إلى تحديث جذري للحياة العربية، غير أن الأنظمة العسكرية التي سادت، وفشل مشروع التحديث، وجمود المنظومة الفقهية، وإغلاق باب الاجتهاد، واستبداد السلطات العربية، واستباحة الدولة، كل ذلك غيّب أو همّش الحالة الثقافية الفكرية وتلاقح الأفكار في العالم العربي، وكانت بداية لصعود التيارات الأصولية وفرض فتاواها، على أشد ما يكون انغلاقاً وتعصباً، فعاد الحجاب الذي دعا إلى خلعه قاسم أمين، بعد اختفائه عقوداً، عاد ليحتل الحياة العربية، وأصبحت ظاهرة الحجاب شائعة في الوطن العربي، ولاسيما في المجتمعات التي كان للاستعمار تأثير اجتماعي وثقافي عليها. والسؤال: هل يعد الحجاب شرطاً ضرورياً للإيمان، أم أنه مظهر ترغم النساء عليه تحت ثقل النظرة الاجتماعية؟!

الحجاب فُرض على الإسلام، ولم يفرض الإسلام الحجاب، وتوارثته المجتمعات العربية باستثناء الحضارة المصرية، ولا يوجد في جوهر الدين الإسلامي وبقية الأديان التوحيدية ما ينص قطعاً على الحجاب.

وتغطية شعر المرأة عادة قديمة جداً عرفتها القبائل العربية في الجزيرة قبل الإسلام، وكذلك في بلاد الرافدين وبيزنطة وفارس.

ويؤكد الباحثون أن الحجاب انتشر في العصر الأموي بتأثير التقاليد الفارسية والإغريقية التي عرفت الحجاب منذ أزمنة سحيقة، ثم زاد انتشاره مع الدولة العباسية حين كان للفرس نفوذ على الحكم والمجتمع.

أما الذين أخضعوا المرأة للنقاب فهم الآشوريون والثقافة اليونانية، فالنقاب وُجد في أثينا عام 500 قبل الميلاد، أي قبل الإسلام بما يزيد على 1000 سنة.. أما فرض النقاب الذي نراه اليوم على الكثير من النساء، فهو الانتهاك الأكبر للمرأة بصفتها فرداً يملك هوية اجتماعية وجسداً له وجه، فالمنقبة لا وجه لها تُعرف به في الأماكن العامة، ولا هوية، هي ملغاة من الفضاء العام رغم ظهورها.

حرية المرأة تكمن في التعبير والزي والحركة، وفرض النقاب اعتداء صارخ على هذه الحقوق، وهو تشويه لحقيقة الدين وتحميله خرافات وبدعاً يعتبرها البعض من صلب الدين وهو منها براء.

أما آن الأوان للتجديد.. للحداثة؟! أما آن للمرأة أن تكون جديرة بالتعامل معها باحترام والنظر إليها كإنسان؟!

وأخيراً نؤكد أنه لا يوجد في جوهر الدين الإسلامي وبقية الأديان التوحيدية ما ينص قطعاً على الحجاب، وعلينا كمسلمين أن نعيد النظر جذرياً في أسس المنظومة الفقهية عندنا التي تتحكم منذ قرون بالتأويلات والنصوص حسب مزاجها، وعلى القوى الوطنية والتقدمية أن تواجه هذا الوضع برفع الوعي عند جماهير الناس، بالتأكيد أن حجاب المرأة ليس فرضاً دينياً ملزماً للنساء المسلمات، وأن حق المرأة في ارتداء الحجاب أو نزعه يدخل في مجال الحرية الشخصية، وفي إطار علاقة المرأة بخالقها، ولا يحق لأي قوى دينية أو سياسية أن تفرضه عليها.

العدد 1104 - 24/4/2024