صمت محمود.. وصمت مذموم

ليست الشمس بحاجة لأحد كي يوقظها من خلف الجبال ووراء البحار، إنها دائمة الحضور والشروق، ونحن الذين بأشد الحاجة لمن يوقظنا من نومنا الطويل، وسباتنا العميق!

إن شمسنا غنية بذاتها، قوية بشروقها الدائم، فلم نسمع في يوم من الأيام أنها طلبت يد العون من أحد كي يساعد أشعتها لتصل إلى أختها الأرض، وأصدقائها الكواكب، إنها تشرق دون ضجيج..

بصمت وهدوء تهدي ثوبها الذهبي الواسع للجميع، إنه صمت الروعة وهدوء العظمة، وسحر التواضع والعطاء.

وبصمت أعمق من الكلام، وأقوى من كل سلاح، تنمو الأجنة في الأرحام، والبذرة في جسد الظلام، وتكبر الأشجار والأطفال دون أن نلحظ ذلك أبداً.

وبلطف ووداعة يحمل الموج بعضه بعضاً، وبصمت الحكماء يصل إلى الشواطئ ليداعب بأصابعه الناعمة جسد الصخور ووجه الرمال، ثم يتراجع عائداً من حيث أتى.. من أعماق البحر والمحيط، دون أن يتحطم أو ينكسر، تاركاً ما حمله من صدف وأسماك للنوارس الجائعة.

إن الصمت أقوى فعل تقوم به الطبيعة..

ألا تختمر البراكين تحت أقدامنا بصمت؟!

ألا ينتظر البرق والنار بصمت الوقت المناسب ليشعلا الغابات والغيوم؟

ألا يسبق الصمت الرهيب هبوب العواصف وحدوث الزلازل والأعاصير؟

وتخترق الخناجر والسيوف اللحم والعظام دون أن تصرخ، وتفيض الأنهار والينابيع من غير أن نسمع كلامها.

إن الصمت صفة عظيمة، ودرجة عالية، ورتبة رفيعة، ومقام شريف لايصل إليه كل إنسان، فليس كل من تسلق الجبال وصل قممها، ولا كل من شرب اللبن والحليب صارت نواياه بيضاء سليمة، فالصمت زهرة عطرها الحكمة والمحبة، وليس كل من طال صمته كان من العقلاء، مثلما ليس كل من صحب الأخيار اهتدى بأفعالهم.

وللصمت أنواع.. مثله مثل الشجر والثمر والعشب والزهر.. منه المفيد الطيب المغذي، ومنه القاتل السام، الناقل للأمراض والحشرات الضارة.

أجل..

هناك صمت محمود، كصمت الينابيع والورود والثلج وهو يتهادى ويتهاطل ليخمّر تراب الأرض، وصمت الشمس والنجوم الهادية بنورها كل ضال..

وبالمقابل يوجد صمت مذموم، كصمت العقارب وسكوت الأفاعي وتربّص التماسيح لافتراس الوعول والغزلان.

في الحياة جرائم كثيرة.. قد يكون أخطرها الصمت عن الجرائم التي تُرتكب بحق الإنسان وكرامته وإنسانيته، فمثلما هنالك جريمة فعل تقترف بالخناجر والسيوف والرصاص.. هنالك أيضاً جرائم يمكن ارتكابها بالصمت والسكوت!

العدد 1107 - 22/5/2024