ذو الجناح

حين تداول الناس خبر نمو ريش كامل الأوصاف لولي عهد الملك وشقيقه الأصغر وقائد حرسه، وما يلحق الخبر من نشوء أجنحة وذيل بما يكفي لطيرانه لحظة يشاء متنقلاً بين مناطق المملكة وخارجها، كانت غالبيتهم تنقله مع إشارات استفهام وتعجب، لكنهم سرعان ما أصبحوا يتداولونه كبديهية غير قابلة للنقاش، بل إنهم كادوا أن ينسوا اسمه الحقيقي، واستعاضوا عنه بلقبه المحبّب إليه: ذو الجناح.

نُسجت عنه قصص لا تنتهي ونسبت إليه معجزات يجترحها وخوارق غيبية، صارت جزءاً من المخيلة الشعبية.

تماهى هو في هذا الدور، وليصبح الدور متقناً منع عن العامة رؤيته مطلقاً، وصارت الدائرة التي تعرف تحركاته وترافقه أضيق الممكن، بعدد أصابع اليد الواحدة، ممن صاروا يحفظون شكله وطبقات صوته وملابسه، إضافة طبعاً إلى زوجته. وقد كان خرق العادة الملكية في العائلة بالعدد الكبير من الزوجات والجواري والمحظيات، فاكتفى بزوجة واحدة محتجبة عن الظهور أيضاً، فزاد في غموضه غموضاً، وفي استيلاد الأساطير من الأساطير.

صار منشدو البلاد ومطربوها وشعراؤها يتغنون بخصال مولانا (ذو الجناح) الذي يشير بيده فيحضر المطلوب، لا تقف أمامه أسوار أو حصون أو رجال أو نساء. جنوده يتحدثون عن جبروته وحزمه وهيبته، لكنهم حين يُسألون عن أوصافه يقولون: أنى لنا أن نراه؟ حتى أمراء الجند لا يرونه، بل يتلقون أوامره من مدير مكتبه أو سكرتيره، فتنفذ في الحال.

يقال إن مثله الأعلى هو إسكندر ذو القرنين، وقد أعجبه لقبه تيمناً بالإسكندر الأكبر الذي لقب بلقبه هذا من كثرة ما حيكت عنه من أساطير، وكثرة البلاد التي احتلّها ونكّل بأهلها.

لكن كان ل (أبو عبدو) رأي آخر، سائق السوزوكي الذي يلقط رزقه من تجواله في شوارع المدينة ونقل ما يتيسر من خضار وفواكه وعفش مسروق أو مباع من قبل آلاف العائلات التي تبيع منازلها وأثاثها لتؤمن مصاريف الهجرة من المملكة السعيدة خوفاً من بطش (ذو الجناح) ، كان يردد أنه يعرف (ذو الجناح) شخصياً ولديه خط ساخن معه، وكان زملاؤه وجيرانه لا يصدقونه طبعاً، لكنهم رغم ذلك يهابونه لمجرد ادعائه هذا. وقد وضع نصب عينيه هدفاً وحيداً في حياته، أن يقابل مولانا ويكسب ولو مصافحة سريعة منه، وكان يتلمس بهدوء وذكاء طريقه للوصول إلى هدفه غير مكترث بسخرية الناس منه واتهامه بالخبل والجنون، وأنه قد يدفع حياته ثمناً لهذا الطموح. خلال سفراته تعرّف إلى بعض جنود المولى الذين يدينون له بالولاء والطاعة العمياء، وأسرّ لأحدهم مرة بحلمه، فقهقه الجندي حتى كادت تطقّ خواصره، وقال: أنت تلعب بدمك صديقي. .

أمام إلحاح (أبو عبدو) وعناده وعده الجندي بمساعدته قدر المستطاع، وقد أغدق (أبو عبدو) عليه بالخدمات والهدايا معتبراً إياه بداية الطريق لتحقيق حلمه، هو المستعد لأن يضحي بسيارته العزيزة على قلبه وبيته للوصول إلى ما يريد.

حتى كان يوم صيفي اتصل به صديقه طالباً لقاءه لأمر هام، أخبره فيه بأن الملكة الأم مريضة، وهي في المستشفى الفلاني محاطة بأشد الحراسات والعسس.

قصد أبو عبدو المشفى طالباً إجراء تحاليل وفحوص تتطلب وقتاً ومراجعات كثيرة، وصار يتردد كل يوم إلى المشفى، حتى شاهد مرة حشوداً من الجنود الأشداء المدججين بكل أنواع الأسلحة تحيط بالمشفى وتملأ ردهاته، فقال في نفسه: جاءت ساعة الحسم، لا بد أنه ذو الجناح يزور أمه، لكن خاب ظنه، كان الزائر جلالة الملك وهو يصافح طواقم الممرضين والأطباء والخدم أيضاً، ويطمئن على الوالدة.

عاد كسير الجناح لكنه لم ييأس.

في اليوم التالي كان المشفى محاطاً بعدد أكبر من الجند والعسس، ودلف أبوعبدو بشطارته المعهودة، بعد أن استعطف الحراس على وضعه الصحي واضطراره للدخول، وهناك شاهد ما لم يخطر له على بال: كان الأطباء والممرضون والممرضات، وحتى مدير المشفى، وقوفاً ووجوههم إلى الحائط، وما إن دخل المشفى حتى ضمه الحراس إلى صفوف الواقفين ووجهه إلى الحائط، وأي التفاتة تكلف صاحبها حياته. عرف حينئذ أن الزائر هو ذو الجناح هذه المرة، وما إن سمع جلبة في الممر خلفه حتى التفت مغامراً بحياته، إنها لحظة حلم العمر بالنسبة له. لم يشاهد سوى قبضة ضخمة ملأت وجهه بالدماء ولم يعد يرى شيئاً بعد ذلك، فتح عينيه بصعوبة وقد اجتمع عليه عدد من الحراس وملؤوا جسده ركلاً وضرباً باعقاب البنادق والحربات، فشاهد رجلاً في أواسط العمر، يجتمع عليه اثنان من المرافقين ويجرونه في عربة، صرخ أبو عبدو بكل ما اوتي من قوة: يا ذا الجناح يا ذا الجناح.. أين اجنحتك؟! أين قدماك؟ 

ثم كانت النهاية السعيدة، جرّه الحراس إلى دهليز معتم قضى فيه بقية عمره وهو يحلم بالعودة إلى سيارته الحبيبة وزملاء العمل والحارة.

وأصبح درساً لمن يهمس باسم (ذو الجناح) واستمرت اسطورته التي لم يعرف حقيقتها سوى أبو عبدو المنتظر.

العدد 1105 - 01/5/2024