الكفاءات السورية بين الاستنزاف والاستثمار

 كافأه على الشيء مكافأة وكفاء: جازاه. والكفيء: النظير، ونقول لا أكفاء له: أي لا نظير له. والكفء: المساواة،والكفاءة للعمل: القدرة عليه وحسن التصرف فيه؛لفظة الكفاءة ذات أصل لاتيني وقد ظهرت أول مرة سنة 1968م. كل المجتمعات تطمح إلى الإصلاح والتطوير، من بوابة مكافحة الفساد والمحسوبيات بعيداً عن اللغة الخطابية (الديكتاتور ديمقراطية) لأصحاب الكراسي الدوارة القائمة على اختيار الموارد البشرية التي دوخت الكفاءات السورية وجعلتها تلجأ إلى قوارب النجاة عسى أن تجد بحراً آمن هرباً من إعصار تسونامي بالوعود التي مازال يشتكي منها الجميع خصوصاً بعد أن فقدت فعاليتها في تخدير العقول والرضوخ إلى أصحابها.

 تتنافس حكومات العالم على اكتساب أفضل الكفاءات لتصنع المورد البشري وتستثمر فيه، لذلك تحاول القيادات الإدارية الكشف عن أفراد يملكون القدرات والمهارات والإمكانيات لصنع ذلك الفارق الذي يجعل المورد البشري يسلك طريق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الذي خلق من أجله. إذا تناولنا ظاهرة هجرة العقول نجد أنها شكل من أشكال التبادل العلمي الشاذ غير المتكافىء بين الدول، وهذا النوع من التبادل يتميز بأنه تدفق لهجرة العلماء في اتجاه واحد لمصلحة أكثر الدول تقدماً؛ وبطبيعة الحال هذه الظاهرة تساهم في زيادة الفجوة بين الدول المتقدمة والدول النامية. وأثناء البحث بالأرقام عن تكاليف الكفاءات السورية التي تكبدتها الحكومة وجدنا اضطرار اللاجئين لترك بلدانهم يشكل نزيفاً هائلاً للثروة الوطنية كما هو عليه الحال في ظل الأزمة السورية،لكن اللجوء يشكل في حالات كثيرة نعمة للبلدان الأخرى، على حد المثل المشهور (مصائب قوم عند قوم فوائد) إذ هذه البلدان يحتاج اقتصادها إلى العمالة الأجنبية المؤهلة كالاقتصاد الألماني، فتكلفة إعداد الطبيب السوري مدة سبع سنوات تكلف نحو مليون دولار وتتضمن تكاليف الدراسة الجامعية والبنية التحتية التعليمية والتدريبية التي تسبق حصوله على شهادة ممارسة المهنة، وبالنسبة للمهندس تتراوح التكلفة ما بين نصف وثلاثة أرباع المليون دولار.

على ضوء ذلك يمكن للمرء وبحساب بسيط تصور حجم الاستنزاف الهائل للثروتين البشرية والاقتصادية الذي تتعرض لها سورية خلال أزمتها الحالية، إذا أخذنا بعين بالحسبان أن حملة الشهادات الجامعية العليا، لاسيما المهندسين والأطباء يشكلون نسبة تزيد على 15% من مجمل اللاجئين السوريين، أما حملة الشهادة الثانوية فيشكلون 35% منهم. لم تشكل هجرة الباحثين عن فرص للعمل أو الهاربين من ظروف البلاد المعيشية والأمنية استنزافاً حقيقياً كالاستنزاف الذي يسببه هجرة عقول أصحاب الشهادات العليا والباحثين عن أرض خصبة لجني ثمار علمهم، فقد جرى سجيل هجرة نحو 17 ألف بين دكتور جامعي وطبيب وصيدلي خلال سنوات الأزمة،إلى جانب المحامين والمهندسين الذين تجاوزت نسبة هجرتهم 20%، الأمر الذي انعكس سلباً على الكثير من القطاعات. فيكون وسطي الكلفة الإجمالية للكفاءة الحاصل على دكتوراه(في الدول العربية) وفق الاختصاص 305 ألف دولاراً للطب و302 للهندسة و294 للاختصاصات النظرية. أما في سورية فإن كلفة إعداد الكفاءات من الاختصاصات المختلفة هو 216 ألف دولار للطب والهندسة و31 ألف دولار للعلوم والاختصاصات النظرية، كما إن وسطي الكلفة الإجمالية للكفاءة الحاصل على إجازة في سورية 64 ألف دولار للطب والهندسة و61 الف دولار للعلوم والاختصاص النظري. وهي القيمة الحقيقية التي تتكبدها سورية عند هجرة كلٍّ عالم من هؤلاء.

وكذلك يسافر يومياً نحو 500 ألف من القاصرين إلى أولياؤهم خارج البلاد! تعتبر أوربا ملاذاً أمناً لهجرة الكفاءات السورية ولاسيما ذوي التحصيل العلمي منهم وهذا ما خططت لأجله منذ اندلاع الحرب خصوصاً ألمانيا العجوز والسويد والدانمارك لحاجتها إلى تلك الكفاءات التي من شأنها أن ترفع مستوى الدولة من خلال مشاركتها في مشاريعها التنموية بعد أن قدمت التسهيلات لهم، إذ نشرت قناة (هنا أمستردام) تقرير لها: إن الدول الأوربية تفضل ذوي الشهادات من المهاجرين إليها؛وكذلك نشرت صحيفة (دي فلت) الألمانية: إن 5000لاجئ قد وصل من الوافدين السوريين ذوي التعليم العالي والمنتمين للطبقة الوسطى السورية يتناسب مع معايير التعليم للحكومة الألمانية.

مرحلة ما بعد الأزمة، كلنا من موقعه كل منا،شركاء في صناعتها؛ معاً لدعم الكفاءات الصامدة في سورية ومنع هدر عقول الكفاءات السورية الوطنية وتهجيرها، المستفيد الأول من هجرتها رأسمالية ما وراء البحار، بعد أن كلفت حكومتنا ملايين الدولارات إذ تصب في خزينة تلك البلدان المهاجرة إليها، الحرب في جولتها الأخيرة بعد أن رفع العالم يديه استسلاماً أمام صلابة الجيش العربي السوري وصموده الماكينات الأولى المحركة لعملية إعادة الأعمار. هذه الأرقام يجب أن يجري التوقف عندها بجدية بمعنى أن تتحول الاجتماعات والندوات إلى ورش عمل فورية واتخاذ قرارات توحي بالثقة للمهاجرين وتردعهم عن الهجرة وإلا أصبحت البلد (فارغة) من كوادرها، الأمر الذي سيوقعنا في ورطة! مع بداية مرحلة إعادة الأعمار.

نحتاج إلى التأسيس والدعم وتمكين للقطاعين العام والخاص والمنظمات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني في سورية لتصبح مراكز تَميُّز، تعمل على تنظيم الموارد الوطنية وتفعيل دور الكفاءات والكوادر السورية لإعادة البناء.

هذا هو الواقع الذي ينبغي أن يقوم!!! خصوصاً إن الجهود التنموية الاقتصادية -الاجتماعية في سورية مازالت حبر على ورق…خطابات، مؤتمرات، اجتماعات، يشتكي الواقع القائم من سماعها؛

كيف ينتظر الأكفاء من غير الأكفاء مكافئة؟ يهدرون الوقت لإنجاز خطط خماسية وهم في الحقيقية عاجزين عن تحقيق خطط رباعية بل حتى ثلاثية…لم نشهد منهم سوى خطط ثنائية أحادية فردية أنانية لا تقدم ولا تأخر… بعيدة كل البعد عن ملامسة تنمية أحلام شباب الجمهورية العربية السورية الفئة الهرمية الأكثر تضرراً في ساحات الحرب..لقد انتهى عصر الخطابات والوعود اللاصادقة واللقاءات الإعلامية (الطنانة الرنانة)! ولو عاش سيدنا سقراط معنا لغير مقولته الشهيرة (تكلم حتى أراك) إلى مقولة جديدة (افعل دون أن تتكلم والعين كفيلة برؤياك).

هذه المقولة تناسب أكثر سقف الوطن الذي نأمل أن يحتوي الجميع دون استثناء. نحن لا نكذب الوقائع لكننا نقول الحقيقة، فالواقع الجديد لسورية الجديدة رهن وأمانة بين يديكم؟ فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟

العدد 1107 - 22/5/2024