الاقتصاد بين عام الصبر والصمود والأمل الاقتصادي المعقود

 لم يكن العام الفائت جميلاً على أغلب السوريين، وكيف يكون جميلاً مادام الدم مستمراً بفيضانه، والدمار مستمراً بسرطانه، والأداء الحكومي، وخاصة من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، في السنة الماضية، لم يكن مراعياً أغلب السوريين، ولكن يبقى صمود سورية والمحافظة على هيكلية الدولة والمؤسسات إنجازاً  كبيراً، في ظل الحرب المخططة والمبرمجة والحاقدة، وهذا الإنجاز هو نتيجة لصمود المؤسسة العسكرية المتفانية والحكيمة والعقل الوطني، ومن خلفها شعب منتمٍ تحمّل الجوع والعوز والألم والدم والتشرد والنزوح، ولم ولن يتخلى عن الذود عن الشرف والعرض، ولم يقبل بأي حلول على حساب السيادة ووحدة الأرض والشعب.

ولكن هذا لا يعني انعدام الأخطاء، ومن واجبنا تسليط المجهر عليها لنقدمها للجهات المختصة، فهي الأجدر بتقدير التوقيت المناسب للتصدي لمعالجتها حسب الإمكانات والتطور الزمني للأزمة، فملفّات الأسعار والدولار ما زالت تسير بما يناسب تجار الأزمة ومتأمّلي الإرهاب الاقتصادي والإسقاط والتدمير والتهديم الاقتصادي لسورية، بعد فشل الإسقاط العسكري، وما زالت هذه الأسعار بسوية لا تتناسب والإمكانات الشرائية للسوريين، وخصوصاً أن المكتب المركزي للإحصاء قدّر التضخم مؤخراً بـ400 % وهو ما يتنافى وحقيقة بعض الأسعار التي فاقت الألف بالمائة، وخصوصاً أسعار النقل والتنقل، وما أضافه ذلك من أعباء وتكاليف على المنتجات والسلع، وقد قدّر المكتب حاجة الأسرة المؤلفة من 5 أشخاص بمئة وخمسين ألف ليرة شهرياً، بعد أن كان 30 ألف ليرة سورية قبل الأزمة، مع مقارنة مستوى الأجور الذي لم يزد أكثر من 50%، ومع وقوع مئات الآلاف ببراثن البطالة، ما أدى إلى نزوح إضافي لملايين من الشعب السوري نحو الفقر المدقع، إضافة إلى نزوح حوالي 7 ملايين داخلياً، ورغم ذلك كان تغاضي وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك عن اغتناء قلة من تجار الأزمة على حساب الشعب السوري، وما زالت العدالة بتوزيع الطاقة الكهربائية غير متوفرة، وهذا لا يقلل من احترامنا للعاملين في هذا القطاع الذي حافظ على استمرارية الطاقة رغم ما لحق به من سرقة وقصف وتدمير.

بالمحصلة إن استمرار الاقتصاد السوري حالة إيجابية لم تأت من فراغ، وإنما من معنويات عالية، تستند إلى وقوف الشرفاء والأوفياء وراء المؤسسة العسكرية عنوان الثبات والأمل المنشود لهذا الشعب الذي لن يتخلى عن مناصرة الشرفاء، مهما لعب تجار الأزمة ومهما حاولوا تفريغ البيئة الحاضنة لحماة الوطن، وما زال أغلب الفقراء والشرفاء السوريين يتأففون من الفساد المنظم المافيوي واتساعه، على الرغم من الدماء والدمار. ويلاحظ المتكلمون أن تيار الفساد يسير بلا أي عرقلة ولا أي نية واضحة لإيقافه خلال الأزمات. فمن وجهة نظر العمق السوري لا يمكن التصدي لكل الملفات في الوقت نفسه، والفساد وحيتانه هم من الأسباب والركائز الأساسية التي فتحت المدخل لتدمير سورية وإفاضة الدماء، واستمرار الفساد لا يعني انعدام النية للإحاطة به ومواجهته، وخاصة أن هناك من يرصد تصرفات الكل وسلوكياتهم، ولكن الوقت الماضي لم يكن مناسباً لفتح معركته، بسبب ضيق الفرص والسبل لتأمين حاجات الشعب، وخاصة بعد الحصار المميت الذي أحاطوا به الجسد السوري، ولكن ما يشفّ من العمق السوري أن مواجهة تجار الأزمة وحيتان الفساد تقترب برهن الحفاظ على وحدة سورية وشعبها.

وقد يكون الأسلوب القادم من التعيينات القائمة على الكفاءة والنظافة والوطنية أهم أساليب مواجهته، إضافة إلى توسيع الخيارات أمام الدولة لتزويد البلد بالاحتياجات وإعادة الإعمار. تصوّر، حتى خطوط الائتمان لم تسلم من فساد منظم معرقل لتأمين الاحتياجات في الزمان المحدد والنوع المناسب، ومن قبل شخصيات تتبروظ بالوطنية وتُزايد بالانتماءات الوطنية. إن ضيق الفرص ومصادر الاستيراد وتأمين السلع والاحتياجات أتاح للبعض احتكار الكثير من السلع، إضافة إلى محاباة البعض، وهو ما وجدناه في رفع ثمن الأدوية من دون أي معطيات أخرى، في ظل تهيّؤ 4 معامل للعمل في سورية، فإن لم نتخلص من المحاباة وضعف النفوس فلن نصل مبكراً. وقد تفاءل البعض بقانون التشاركية الذي أصدر قبل أيام، من باب الأمل الجديد بتلافي ثغرات قانون التشاركية الذي عُرض في زمن حكومة العطري والدردري، وخاصة بسبب الحاجة إليه في الوقت الحالي، بعد ما آل إليه وضع سورية القاسي وظروفها الصعبة التي تتطلب مشاركة الجميع (العام والخاص) واستثمار كل الطاقات السورية المادية والمالية، وإمكانات المغتربين السوريين الذين لم يكونوا على قدر المسؤولية والحاجة، فالتشاركية أسلوب صحيح ولكن ما وجدناه سابقاً هو تفريغه من محتواه، وخاصة ما حدث بمحطة الحاويات في طرطوس وفي اللاذقية ومعمل أسمنت طرطوس، فما حصل هو خصخصة مبطنة على حساب البنى التحتية التي هي ملك للشعب السوري، وكان فيه غبن حقيقي للدولة، واختباء وراء الأزمة لتنفيذ عقود بالأصل هي لم تكن مناسبة ولا كنّا مضطرين لها. التشاركية الحقيقية هي التي تؤدي إلى زيادة الطاقات الإنتاجية وإيجاد فرص عمل جديدة، ولا تكون على حساب الشعب والدولة، ببنى موجودة تعمل وهي بحاجة فقط إلى إصلاح إداري. التشاركية ضرورية عندما لا تكون الدولة قادرة على التصدي لقطاعات إنتاجية أو خدمية، وبالتالي تقدم الدولة الأرض وبعض الآليات أو الأدوات، ويقدم القطاع الخاص الرأسمال والكوادر البشرية، وما حصل فيما مضى أن الأرض والكوادر والميناء هي للدولة، ولم تكن الدولة بحاجة إلى رساميل، فقد كان الاحتياطي من العملات الصعبة حوالي 25 مليار دولار، وفوائض المصارف 860 ملياراً من الأموال السورية، وكنا قد وصلنا في البنى التحتية إلى مرحلة تفوق أغلب الدول المحيطة والبعيدة.

 من أهم ما لوحظ خلال السنة الماضية موجة الهجرة الجماعية وخاصة إلى أوربا وخصوصاً ألمانيا، فما هي برأيكم انعكاسات هذه الهجرة على الاقتصاد؟ وهل تعاملت الحكومة بما يجب أن يكون للتخفيف منها؟ كانت هذه الموجة سلبية بكل ما تحويه الكلمة، فقد كلفت سورية حوالي 7,7 مليارات دولار للمهاجرين إلى ألمانيا فقط الذين قدروا بـ700 ألف، ما انعكس على الليرة السورية من جهة، وكذلك سببت مشاكل اجتماعية وتفكّك أُسر وحتى الطلاق، وبيع الأملاك في سورية بأسعار قليلة، كما خسرت سورية الكثير من الكفاءات، فقد قدّر حملة الماجستير والدكتوراه بحوالي 4000 شخص إضافة إلى حملة الشهادات وما أنفقته الدولة السورية من مصاريف لتهيئتهم وتعليمهم والطاقات البشرية التي استنزفت، والتي سنكون بحاجة إليها في إعادة الإعمار، ولم تتخذ الحكومة أي إجراءات عملية أو روتينية أو إعلامية للتخفيف من هذه الهجرة، وكان بعض المراقبين يرى أن الحكومة تساعدهم على الهجرة لأسباب مجهولة! ولكن ورغم الكوارث والمآسي التي أصابت الجسد السوري وبنيته التحتية، والآلام والدماء، بعد أن هُرّب حوالي 300 مليار دولار منشآت اقتصادية ومدخرات، ودُمّر حوالي مليون بناء وحوالي 3 آلاف معمل ومنشأة و3 آلاف مدرسة ومئات المشافي والمراكز الصحية، وبعد أن مُنعنا من المنشآت النفطية والحقول الزراعية وحرق المحاصيل، واقتطاع أغلب الأراضي الزراعية، استمررنا بظروف لا تستطيع أقوى الدول أن تحتويها وتحافظ على كيانها ووحدتها.

الأكيد أن القادم أحسن، إن تضافرت الجهود وتوفرت الإرادة للقادم الذي يجب أن تكون الإدارة فيه للدولة السورية عبر المؤسسات الوطنية وإعادة القطاع العام الذي مورست كل الوسائل لقتله، وإعادة تفعيل المؤسسات الخارجية، وكل ذلك لا يمكن أن يكون بلا سياسة تعيينات صحيحة وقائمة على الكفاءة والانتماء الوطني. ومن خلال رؤيتنا فإن ثقتنا كبيرة بالمؤسسات الوطنية وبعمق رؤيتها وتعاملها مع تطور الأزمة، وعليها الرهان، فالمؤسسات التي حمت سورية قادرة على السير قدماً بما يحترم الدماء الطاهرة ويوحد سورية أرضاً وشعباً.

 

العدد 1107 - 22/5/2024