ماري جبران… سيدة مطربات بلاد الشام بلا منازع

 ولدت ماري بنت يوسف جبور عام 1905أو ،1907 في لبنان، وهاجروا منه إلى سورية نتيجة قسوة الحياة وهرباً من المجاعة، واستوطنوا دمشق، لكن عاجل الموت والدها فاضطرت أمها أن تعيش وأسرتها مع أختها الممثلة ماري جبران، وكانت معها بدايات طفلة موهوبة أخذت تغنّي على المسرح وترقص برشاقة وتضرب بالصنوج، إضافة إلى براعتها في العزف على العود.

يعود الفضل في اكتشاف موهبة ماري جبران إلى الشيخ سلامة حجازي الذي كان من عادته اكتشاف المواهب من الممثلين والممثلات لاستخدامهم في فرقته، وخلال إحدى جولاته في بلاد الشام تعرّف إليها، وعندما قررت ماري جبور احتراف الغناء استخدمت اسم خالتها الممثلة المشهورة ماري جبران لاكتساب شهرة، وكي لا تسيء لاسم عائلة جبور التي لم توافق على احترافها الغناء في الملاهي.

تقول إحدى الروايات إن ماري جبران عملت في فرقة الممثل المصري حسين البربري وهي في الثالثة عشرة من عمرها، وإنها بعد أن عملت مدة تسع سنوات في فرقته في مدن يافا وحيفا وبعض مدن شرقي الأردن الصغيرة عادت إلى دمشق وعملت فوراً في مقهى قصر البللور بحي القصاع الدمشقي، وأنها منذ ذلك التاريخ أي بين عامي 1924 ـ 1925 استقلت بالعمل وحدها بعد أن بلغت من الشهرة ما يؤهلها لذلك، لكن التاريخ الذي تذكره هذه الرواية مشكوك فيه، إذ إن الثورة قد اندلعت عام 1925 وكانت دمشق مسرحاً رئيسياً للأحداث، فمن المستبعد أن تكون قد عملت أكثر من بضعة أشهر في قصر البللور، وهي الأشهُر التي سبقت الأحداث الجسام، ثم حزمت حقائبها وتوجهت إلى بيروت، لتحط رحالها في ملهى (كوكب الشرق)، وعادت بعد انكفاء الثورة إلى دمشق وعملت بعض الوقت في ملهى (بسمار)- مقهى الكمال اليوم، ثم غادرتها إلى حلب واشتغلت في ملهى (الشهبندر)، وبعد سنة على ذلك، عادت مرة أخرى إلى دمشق فعملت في ملهى (بسمار) حيث بلغ أجرها الشهري أكثر من خمسين ليرة ذهبية.

وعند زيارة الراقصة بديعة مصابني في أوائل الثلاثينيات لدمشق استمعت إلى ماري جبران في سهرة خاصة فأذهلها صوتها وأداؤها وجمالها، فقررت أن تأخذها معها إلى مصر، ووقعت معها عقداً للعمل في صالتها مدة سنة قابلة للتجديد، وهناك افتتن الناس بجمالها قبل أن يفتنهم صوتها وغدت بين عشية وضحاها قبلة الأنظار، فأحاط بها المعجبون والفنانون وأطلقوا عليها اسم ماري الجميلة وماري الفاتنة، كما تسابق شيوخ التلحين إلى خطب ودّها، فتعرفت إلى محمد القصبجي ووداود حسني والشيخ زكريا أحمد، وانفرد الأخيران بالتلحين لها، فحفظت على يدي داود حسني دور (الحبيب للهجر مايل) ودور (أصل الغرام نظرة) واهتمت بتدريبات الشيخ زكريا أحمد، وتعلمت منه كيف تغني القصائد والأدوار والطقاطيق حتى أبدعت فيما غنت، مثل دور (ياما إنت واحشني) و(دع العزول) و(في البعد يا ما كنت أنوح).

وفجأة دبّ الخلاف بينها وبين بديعة مصابني، فتركت مسرحها آملة في العمل بمسارح أخرى، لكنها لم تستطع ذلك في البداية بسبب سيطرة بديعة مصابني القوية على ملاهي القاهرة، إلا أنها تمكنت عن طريق أصدقائها الكثر وبفضل ما تملكه من خصائص فنية من العمل في العديد من الصالات، وظلت تعمل على الرغم من القطيعة بينها وبين بديعة مصابني مدة سبع سنوات، ثم لأسباب مجهولة قررت العودة إلى دمشق، ووقّعت عقداً مع ملهى العباسية- فندق سميراميس، وكان ذلك في أواخر الثلاثينيات وشبح الحرب العالمية الثانية المنذرة بالاندلاع يخيّم على العالم، ومنذ ذلك التاريخ أخذت ترسخ قدمها في الفن الذي أتقنته وكرسته لرواد مسارح لبنان وسورية وفلسطين وملاهيها، حتى غدت بحق مطربة ديار الشام الأولى.. وكانت تغني أعمال مشاهير الملحنين، منها أدوار الشيخ سيد درويش وداود حسني وزكريا أحمد، التي كانت تؤديها سيدات الطرب آنذاك: فتحية أحمد وأم كلثوم ومنيرة المهدية ونادرة الشامية، ثم أخذت تغرف من ألحان محمد القصبجي ورياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب في المونولوج والقصائد والطقاطيق، وبعض الأعمال التراثية الشامية في الموشحات والأدوار والأغاني الخفيفة، واكتشفت شيئاً فشيئاً أن عليها أن تغني أغاني خاصة بها يلحنها ملحنون مختصون يعرفون خصائص صوتها وقوته، فاتصلت بمشاهير الملحنين من أمثال صابر الصفح ومحمد محسن ورفيق شكري ونجيب السراج وزكي محمد الذي افتتحت بأول لحن له حفلاتها الشهيرة عام ،1937 وهو مونولوج شعري رومانسي بعنوان (الشباب)، ثم تتالت أعماله لها وبخاصة في القصائد التي حلقت بها، ومنها قصائد (دمشق، خمرة الربيع، زنوبيا)، وفي المونولوج (البلبل) والطقطوقة (أماني).

يصنّف النقّاد صوت ماري جبران بين الأصوات القويّة (سوبرانو) القادرة المتمكّنة الصّادحة، مع اتّصافه بخصائص جماليّة عالية توازي أمّ كلثوم، صوتاً وأداءً، ومرتبة، ولو امتدّ بها العمر لكان لها شأن آخر، هذا كلّه جعلها تتربّع على عرش مطربات عصرها، واعتبرت بحقّ سيّدة مطربات بلاد الشام بلا منازع خلال النّصف الأوّل من القرن العشرين، وبالتّالي فقد أكّدت موقعها المميز في الغناء في زمن الحروب وانحطاط الفنّ، وعلى الرغم من عطائها الثرّ، فإن التسجيلات التي تحتفظ بها إذاعة دمشق لعشرات من أغانيها التراثية والمعاصرة قلّما تذاع هذه الأيام.

تزوجت ماري جبران من نقولا الترك، ورزقا بولد واحد لم ينعم طويلاً بحنانها وحبها، إذ أصيبت بالسرطان الذي عانت منه الأمرّين، وقضت به في عام ،1956 فقيرة معدمة مهملة من الناس الذين كانوا يلتفون حولها في أوج مجدها، وكانت جنازتها متواضعة، لم يمش فيها سوى بضعة أفراد من الذين أحبوها.

العدد 1107 - 22/5/2024