في سورية.. غلاء وجوع ومطرقة حكومية

جاع السوريون، وأفقرتهم الحرب الطاحنة التي يتعرضون لها، ودمرت ممتلكاتهم، وقضت على بقايا آمالهم، إذ تعصف موجة غلاء خانقة بحيوات الناس، وبالمقابل رجعت الإجراءات الحكومية لمواجهتها، والتخفيف من صدمتها وآلامها، بخفَّي حنين. إذ يستمر المواطنون في محاربة واقعهم البائس، وترميم دخولهم المتآكلة، في وقت لم يعد أمامهم مزيد من الفرص للاستناد إليها، من مدخرات، أو تحويلات، فضلاً عن ثقتهم المعدومة بما قد تفعله الحكومة، لأنه لا يتعدى التصريحات الإعلامية، بالتشديد والتأكيد. فيما واقع الأسواق مختلف، والتجار مستمرون، بالتعاون أو التواطؤ، مع الحكومة، في ترديد نشيد سعر الصرف. كما أن لا أحد من هؤلاء يمسك العصا من منتصفها، أو يقف في منتصف الطريق، ضماناً لمصالح الجميع، لأنهم يقفون في أقصى الجهة التي تلحق الضرر بالناس، وتبتزّهم، وتضغط عليهم.

  فمع الهبوط في أسعار الغذاء عالمياً، تشهد الأسواق المحلية، هبّة مثيرة في الأسعار، اذ تراجعت أسعار الغذاء في كانون الثاني الماضي بنسبة 1,9% مقارنة بكانون الاول الفائت، وفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة العالمية ( فاو) متراجعة من 153,4 إلى 150,4 نقطة، وذلك بتأثير هبوط أسعار جميع السلع الغذائية الأساسية لاسيما الانخفاض الحاد في أسعار السكر والألبان، بينما تؤكد فاو أن أسعار الأغذية تراجعت 16% في كانون الثاني 2016 عن مستواها قبل عام. ولم تصل نتائج الاتجاه العالمي المتراجع لأسعار الغذاء، إلى السوريين الذين يعيشون تحت ظلم الحرب وأمرائها، والمتحكمين بقوت الناس، وبيدهم القدرة على توزيع سلة الغذاء الأساسية، وفرض أسعارها. كما يكشف هذا الواقع المؤلم، في أسعار الغذاء، حال الليرة السورية، وتهاوي قدرتها الشرائية، وتراجع قيمتها، بلا رتوش حكومية، أو تبريرات غير منطقية، أو وجهات نظر تثير الابتسام.

السوريون جوعى، وقلة منهم مصابة بالتخمة، فالحرب التي بددت ثروتهم الزراعية، خاصة الغذائية منها، لن تشفع لهم وتقيهم شررها. ويتحكم بغذاء السوريين، جملة عوامل، لا إرادة للطبقات المسحوقة والضعفاء اقتصادياً في تشكيلها، أو معرفتها. فلقمة العيش المغمسة بالعرق والتعب، باتت مغمسة بالدم أحياناً كثيرة. بينما الجهات الحكومية والأهلية المعنية بهذا الشأن، صامتة، ونادراً ما تنبس ببنت شفة، رفضاً، أو تعبيراً عن قلق، من الحالة المعيشية المتدهورة، التي تركت المواطن في حيرة من أمره، ودفعته باتجاه أصعب الخيارات وأكثرها مرارة وقسوة.

ويعكس الرقم القياسي لأسعار المستهلك، الذي يصدره المكتب المركزي للإحصاء، المأزق الكبير الذي وصل إليه المواطن، إذ بلغ هذا الرقم في أحدث إصدارات المكتب عن شهر آب العام الماضي 449,8%، محققاً تضخماً شهرياً قدره 1,2% وتضخماً سنوياً قدره 40,5 %. ولا مجال لترك الخيال هنا لمعرفة واقع هذا الرقم في كانون الثاني ،2016 لأن عدداً من المعطيات تغيرت نحو الأسوأ، وأبرزها سعر صرف الليرة. كما أنه لا الدخول قادرة على ردم الفجوة السحيقة مقارنة بالأسعار، ولا يلوح في الأفق أية بارقة أمل، أو انفراج قريب، يسهم في فك خيوط اللعبة المحيرة بين سعر الصرف وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية، فالحكومة لا ترى هناك ترابطاً بينهما، والتجار يغردون خارج هذا السرب.

تعيش سورية حرباً أحد أوجهها غذائي، وبات لافتاً رؤية الفقر المدقع، الذي يسم وجوه ملايين السوريين، وباستثناء قلة قليلة جداً منهم، يمكن التماس الفقر على محيّا الغالبية الساحقة من المواطنين. فالنقص الواضح في كمية المعروض من المواد الغذائية في عدد من الأسواق، هو الجزء غير المغمور من جبل الغلاء الجليدي العائم، بينما الجزء الآخر والأضخم هو بيد القلة القليلة جداً من المستحوذين والمحتكرين، أو من يسمّون(المستوردون الحقيقيون)، بعيداً عن وهمية الاستيراد السائدة.

تجاوز موضوع الغذاء السوري مرحلة الانكشاف، فمع سقوط الأمن الغذائي، الذي مهّدت له حكومة عطري، عند بيعها مخزون القمح الاستراتيجي، بات جلياً أن السوريين ودّعوا إلى إشعار لاحق، مرحلة البحبوحة الغذائية. ومع إشعال فتيل الحرب، ظهر الجوع، خرج هذا المرض والمعضلة في آن من قمقمه، وانتشر على مساحة البلاد، وتغلغل في المجتمع. مشكلة الجوع في سورية، ناتجة عن الحرب، والإجراءات الغائبة، فالأسواق تعيش فوضاها، والأسعار مضطردة الارتفاع، ووحده المواطن يصارع طواحين الأسعار والاحتكار والغلاء.

إن الجوع على الطريقة السورية، مختلف عن الجوع العالمي، ثمة مواد غذائية تغرق الأسواق المحلية، ونادراً ما سجّل فقدان حقيقي لمادة أو سلعة غذائية بشكل عام، لكن السؤال المهم: من يستطيع الشراء؟ من يملكون المال اللازم ويفي باحتياجاتهم؟

يمكن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة بشيء من الحيادية، وفي التقرير الذي أصدره المركز السوري لبحوث السياسات مطلع الشهر الجاري، بعض المؤشرات المهمة، ومنها أن 85,2% من عدد السكان فقراء، وأن 69,3% يعيشون في فقر شديد، أي أنهم غير قادرين على تأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية. ويخلص التقرير الذي جاء تحت عنوان (جنون التشظي) إلى أن 35 % من عدد السكان يعيشون في فقر مدقع، وهؤلاء غير قادرين على تأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم الغذائية الأساسية.

تظهر مدلولات هذه الأرقام، بمقارنتها مع واقع الفقر في سورية في النصف الثاني من العقد الماضي، إذ وصلت نسبة الفقراء إلى 30%، بينما الذين يعيشون بفقر مدقع 10% من عدد السكان آنذاك . الأخطر في مؤشرات تقرير المركز المذكور أنها رصدت واقع سورية العام الماضي، ومع الغلاء الجديد الذي بشرت به الحكومة، على لسان مسؤوليها غير مرة، إذ ألمح رئيس الوزراء في لقائه مع الإعلاميين مؤخراً إلى إمكانية أن تتجه الحكومة إلى رفع سعر بعض الخدمات، يبدو أن المواطن السوري يقف الآن تحت المقصلة تماماً. مقصلة الأسعار، والغلاء، والحرب، والاحتكار، فيما حكومته وضعته على السندان، عبر غياب إجراءاتها، وعدم عنايتها بمشكلاته، وفي أي لحظة قد تهوي بمطرقتها عليه.

العدد 1105 - 01/5/2024