حين يتخلى النقابيون عن ناخبيهم

 على مدى التاريخ، كانت النقابات(التي تُعتبر إحدى أهم منظمات المجتمع المدني)، ممثلة وحيدة لحقوق الطبقة والشرائح التي انتخبتها، وهمومها، وأُسّسَت من أجلها، وأهمها الطبقة العاملة التي تُعتبر أحد أهم أعمدة العملية الإنتاجية في أي دولة.

ولا شك أن غالبية الطبقة العاملة في مختلف المجتمعات هم من الشرائح البسيطة سواء في وعيها لواقعها أو حتى لحقوقها، أو في مستوى معيشتها نظراً لعدم التناسب ما بين الجهد المبذول والأجر من جهة، وارتفاع عدد أفراد الأسرة الذين هم بحاجة للإعالة، في ظل عدم القناعة المجتمعية لهذه الشرائح بضرورة تحديد النسل، أو تنظيمه، مترافقاً مع صعوبة تأمين مستلزمات الأُسر المعيشية وسواها في ظل أسعار الأسواق الرائجة والمرتفعة غالباً من جهة أخرى، وبالتالي تدني القدرة الشرائية والمعاشية لتلك الطبقة، مما يعني انعدام إمكانية الحصول على متطلباتها بسهولة تخفف من الأعباء الملقاة على عاتقها أيضاً.

وهنا، يقع على النقابات المُنتخبة من قبل العمال أنفسهم، مسؤولية وصولهم إلى حقوقهم الغائبة أو المغيّبة في علاقتهم بأرباب العمل، باعتبارها أُنشِئت أساساً للحفاظ على حقوقهم في مواجهة أرباب العمل في مختلف القطاعات سواء الخاص أو الحكومي، بحكم تسيّد المحسوبيات وما شابه، لاسيما في ظل الواقع المرير الذي تعيشه البلاد ومن فيها، فقد بات العامل رغم ضآلة أجره، ورغم العديد من التعقيدات والتقييد الذي يُلاقيه في العمل، بات أكثر عرضة للمخالفات والعقوبات التي غالباً ما تكون جائرة وظالمة، وناتجة عن دسيسة أو نميمة من محظوظي المديرين وسواهم ممن يتزلفون لهم، هذا لجهة الحقوق والعدل والإنصاف.

أمّا لجهة المسؤوليات الخدمية، فعلى هذه النقابات تأمين العديد من الخدمات والمساعدات التي يمكن أن تساهم في التخفيف من الأعباء الحياتية بمختلف جوانبها المعيشية والصحية وغيرها، عن طريق إنشاء مؤسسات أو جمعيات استهلاكية في أماكن العمل، تقدم لهم مختلف احتياجاتهم بأسعار نظامية ومقبولة، لاسيما في أجواء حرب ألهبت نيرانها كل شيء حتى الأسعار التي تسابق الزمن في ارتفاعها ما بين ساعة وأخرى، وفي ظل غياب الرعاية والرقابة الحكومية، وكذلك صعوبة الحصول على العديد من الخدمات كالغاز والمازوت والخبز الذي يستهلك وقتاً ليس بالقليل لتأمينه، يصعب فيه على العامل التغيّب عن مكان عمله طويلاً بحكم التعميمات الدائمة بضرورة التقيّد بساعات العمل دون مراعاة للأوضاع الأمنية السائدة، ولا لكثرة الحواجز وأزمات المرور الخانقة التي تأخذ من وقت العامل زمناً ليس بالقليل ذهاباً وإيّاباً، فضلاً عن التعب والجهد الجسدي والنفسي الذي يتعرض له جميع الناس يومياً. ولا يفوتنا هنا أن العديد من المؤسسات والإدارات الحكومية قد أمضى عمالها وموظفوها الشتاء الماضي بلا تدفئة، وواضح أنهم سيمضون هذا الشتاء كسابقه، في حين أن مكاتب المسؤولين والمديرين تنعم بدفء يزيد عن الحاجة أحياناً.. والنقابيون يبدو أنهم في غفلة عن ناخبيهم وأمراضهم التي يسببها بردهم في أماكن عملهم التي يمضون فيها وقتاً ربما أكثر من بيوتهم.

إذاً، هذه هي بعض المهام الأساسية التي وجدت من أجلها النقابات، والمتضمَّنِة في برامج المرشحين لها والتي على أساسها يجري انتخاب الهيئات النقابية والنقابيين الذين غالباً ما نراهم يتوددون للعمال والموظفين طيلة فترة الدعاية الانتخابية، ويقدمون لهم وعوداً تجعلهم يخالون أنهم في المدينة الفاضلة، أو في دولة اشتراكية تؤمن حقيقةً بأن الطبقة العاملة هي عماد بناء الدولة واقتصادها واستقلالها، وبالتالي لا بدّ من تقديم الخدمات لها كي تكون مهيأة نفسياً وجسداً للقيام بمهامها المنوطة بها في بناء الصناعة والاقتصاد على أكمل وجه.

لكن، إذا ما تمعّنّا جيداً بواقع العمال في مختلف القطاعات، وإذا ما نظرنا بشكل أعمق إلى دور تلك النقابات في حياة أولئك العمال، نجد أنه واقع مرير مغلّف بكثير من العسف والظلم والإهمال، في ظل غياب أولئك النقابيين الذين كانوا قبل فوزهم يتوددون للعمال، للحصول على أصواتهم من أجل الفوز بعضوية النقابة، والذين سرعان ما ينسحبون من وعودهم التي قطعوها للعمال، مفضّلين عليها مصالح أرباب العمل من وزراء ومديرين ومسؤولين متنفذين، متخلّين عن ناخبيهم بكل جرأةِ وغياب ضمير المسؤولية المنوطة بهم. فالخدمات الموجودة شكلية في غالبيتها من حيث تخفيف وطأة تكاليف معيشة العامل وأسرته، فمثلاً المؤسسات الاستهلاكية الموجودة في أماكن العمل والتابعة للنقابات لا تختلف بأسعارها عن الرائج في السوق، بل وأحياناً تكون أغلى، رغم أن هناك مطالبات عمالية بتأمين المواد الأساسية(خبز، مازوت، وغاز) بالسعر الرسمي مُضافاً إليه أرباح طفيفة للمؤسسة باعتبارها مؤسسة عمالية، لكن لا حياة لمن تنادي، والخدمة الوحيدة التي تقدمها مدعومة هي المواد المقننة(سكر ورز) وبأوقات متباعدة.

أمّا في الشق الحقوقي بالنسبة للعمال وعلاقتهم بأرباب العمل، فنجد أن الحضور النقابي إن لم يكن هامشياً وغير مرغوب من المديرين، فهو غالباً ما يكون محابياً لهم ضدّ مصلحة العمال الذين إمّا أن يُنقلوا من أماكن عملهم لأسباب تفرضها مزاجية هذا المدير أو ذاك، أو لأسباب مسلكية ربما لا تستحق كل هذه العقوبة مثلاً، فضلاً عن العديد من القرارات والتعاميم الوزارية وسواها، والتي يكون بعضها في غير مصلحة العمال، لاسيما في ظروف الحرب الراهنة والمتعلق غالبيتها بالتقيّد بالدوام والغياب غير المبرر للعمال القاطنين في مناطق ساخنة أو أمنية.

من هنا نجد أن عموم الأهداف التي قامت النقابات لأجلها شبه معدومة في ظل تسييس تلك النقابات وجعلها في موقع واحد مع أرباب العمل والحكومة من جهة، ومن جهة أخرى بسبب أن الخدمات التي يطالب بها العمال لا تناسب ولا ترضي نهم بعض النقابيين لجني مكاسب وأرباح وميزات أبعدت غالبيتهم عن مهامهم الأساسية، بل وأبعدت النقابات بمجملها عن هدفها الأساسي الذي أُنشئت لأجله.

العدد 1107 - 22/5/2024