وزير للصناعة أم لتصفيتها؟

لم يقدم وزير الصناعة كمال الدين طعمة شيئاً، من أجل مؤسسات الصناعة بشقّيها العام والخاص، ولم يفعل المتاح لإنقاذ الشركات التي وضعها متهاوٍ، أو التي على وشك الانهيار، أو التي تقاوم الموت بفعل تجاهلها، وعدم الانتباه واللامبالاة. إذ لا توجد خطة واضحة للوزير تسهم بشكل فعلي، في معالجة ثالوث: الفساد، والخسائر، والعمالة الزائدة، في مؤسسات القطاع العام الصناعي، وشركاته الراضخة لمشيئة الموت القادم إليها على حين غفلة.

ويمكن لعامل، في أي شركة، أن يلخص مشكلات الصناعة، بطريقة  فنية تفوق مهنية معظم الخبراء الذين يدرسون هذا الملف، فهذا العامل يدرك الداء وسببه، وسوء المعالجة في الوقت عينه، ولديه من النباهة والذكاء ما يمكّنه من قراءة واقع الصناعة السورية، والمآل الذي وصلت إليه. فأهل مكة أدرى بشعابها، وعمال الصناعة هم الأقدر دون غيرهم، على معالجة واقع شركاتهم المرير، التي يدير معظمها غير الكفئين.

لم يردّ طعمة على انتقادات أعضاء مجلس الشعب، عند استجوابه، بشكل واضح. وتهرّب من البوح، عن سبب بسيط جداً، يبرّر لماذا إنتاج معمل  للقطاع الخاص يعادل إنتاج شركات القطاع العام الصناعي؟ ومن نافل القول، أن المبالغة الواضحة في التوصيف، تقود إلى خلخلة  تعقيد المشكلة، المتبع رسمياً. لأن من يملك الإجابة، يمتلك حلاً، و لن ينفع  نهج التهرب إطلاقاً، في معالجة مشكلة عمرها يزيد عن ثلاثة عقود ونيف. والواضح أن طعمة  في وارد آخر، أو أنه لا يريد تحريك المياه الراكدة، بل ذهب إلى حد تقديم إطراءات لمؤسسة رابحة كالتبغ. فيما الشركات التي تُطرح حول أدائها أسئلة مصيرية، أو تخوّفات جوهرية تجاه مستقبل بعضها الآخر، وضعها طعمة في ميزان الراغبين بالاستثمار، وعلى طبق من ذهب.

ولن يسهم التذرع بقانون التشاركية، سيّئ الصيت، في معالجة القضية. لكن من الواضح، أن ما قدمه النائب الاقتصادي الأسبق عبدالله الدردري، بشيء من الخجل، يقدمه طعمة على قاعدة قانون يسم المرحلة الاقتصادية القادمة، ممتلكاً الأداة الأقوى، ومستنداً إلى هدف حكومي وهو تنشيط الاستثمار. إلا أن هذا الهاجس الأكبر للحكومة لا يمر بهذه الطريق، إنه ممر ضيق وغير إجباري، ولا جدوى محققة منه على ما يبدو. ففي الظروف الأفضل، رفض رجال الأعمال الاستثمار في الشركات الخاسرة، وأشاحوا بوجوههم عنها، ويمّموا وجهتهم  إلى الشاطىء الثاني، أي هيئة الاستثمار. ماذا يريد مستثمر من شركة خاسرة؟ ولماذا يستثمر بشروط لا تناسبه؟ هذه الأسئلة غير بعيدة عن قناعات رجال أعمال لا تنقصهم الفطنة، والأبواب أمامهم مفتوحة للاستثمار. ما الميزات التي يمكن أن  تقدمها الحكومة لمستثمر حتى يقتنع بشركات كهذه مهترئة؟ هل يستثمرون في البقرة الآيلة للموت؟

استغل طعمة، وهو العالم بأوضاع القطاع العام الصناعي، فرصة مهمة، قانون التشاركية، الذي يعد المُخلّص من عذابات الإصلاح وآلامه. وإذ يبدو الحديث عن إصلاح قطاع متهالك، ولديه الكثير من الأوجاع، ضرباً من الجنون، فإن الطرح على الاستثمار لا يقلّ جنوناً عن الحالة آنفة الذكر، بخيباته الكثيرة. وإذا كانت الحرب المُدمّرة، لها النصيب الأكبر في العزوف عن الاستثمار، فإن المرحلة السابقة التي كانت سورية تصنّف فيها من بين أكثر عشر بلدان أمناً، لم تشجع رجال الأعمال على  الاستثمار في منشآت خاسرة، وبشروط تعجيزية، بينما كانت الدول تتسابق في منح التسهيلات للمستثمرين.

هذا لا يعني إطلاقاً أننا نطالب بتأمين البيئة المناسبة لاستثمار هذه الشركات من قبل رجال المال، بل على العكس تماماً، نطالب بضرورة محاسبة من ترك هذه الشركات تتهاوى، ومن لم يحرك ساكناً من أجل إنقاذها، ومن خطط لتصاب هذه الشركات بحمّى الخسارة الدائمة. حاول طعمة خلال الفترة الماضية، تسجيل مواقف إيجابية شخصية، من خلال عقد مؤتمر صحفي، و السماح لوسائل إعلام بتغطية اجتماعات تقييمية لمؤسسات الصناعة، وجاءه الاستجواب بمجلس الشعب ليزيد من حضوره الواسع في وسائل الاعلام، لكن السؤال المنطقي: عقب كل هذه المنجزات لوزير الصناعة، ماذا حدث للشركات التابعة للوزارة؟ ..

ببساطة، كان طرح 27 شركة على الاستثمار هو الحصيلة المنجزة، والرسالة التي وصلت إلينا، ونخشى أن تكون حصيلة أولية، أي أن ما يخبئه طعمة أخطر بكثير مما أعلنه، وأن يقود حملة حقيقية لتصفية ما تبقّى من هذه الشركات، التي تشكل عاملاً  رئيسياً من عوامل الصمود، وتأمين مستلزمات الناس، والتخفيف من حدة الأزمة اقتصادياً.

لا تعنينا كل التأكيدات التي يطلقها طعمة لنفي نوايا مبيتة أو خطط جاهزة للتخلي عن القطاع العام الصناعي، أو خصخصته. وإذ يدافع طعمة عن موقفه، بالاستناد إلى قانون التشاركية، فإن موقف أعضاء في مجلس الشعب محسوبين على حزبي البعث والشيوعي، إضافة الى الاتحاد العام لنقابات العمال، يبدد هذا الموقف الواهي، إذ إنهم اعتبروا قانون التشاركية خصخصة – أثناء مناقشته تحت قبة البرلمان – وحذروا من خطورته، وكذا مواقف العديد من القوى الوطنية الأخرى.

اتكأ طعمة على قانون التشاركية، ليتخلص من العبء الثقيل، ويترك خلفه إرثاً لا يجاريه فيه أحد، عبر تقديم الكعكة، لمن يتوقع أنهم قد يشترونها. ويجب عدم تجاهل خطورة هذه الطروح والمواقف، فتكرارها عبر شروط أقل قسوة في كل مرة، بعد امتناع أحد ما عن الاستثمار، يشي باتفاق غير معلن ربما، لبيع هذه الشركات فيما بعد، بأسعار بخسة، تحت حجة الخسارة والتوقف عن الإنتاج. هذا ما حدث في دول عديدة، لها تجربة مماثلة للحالة السورية، التي تُرك فيها القطاع العام الصناعي يتهاوى، ومُنع عنه الأوكسجين اللازم للاستمرار، وخُطفت منه جرعات التفاؤل بإصلاحه.

أثبتت الأزمة الراهنة، ما كان ثابتاً وواضحاً بالنسبة لنا على الأقل، أن  الصناعة ومنها القطاع العام ضرورة حتمية، لاقتصاد البلاد، وعند الحديث عن الفرص والدروس المستفادة من الأزمة الراهنة، تكون الصناعة في أول السلم. إلا أن أحداً من صناع القرار الاقتصادي لا يريد أن يفهم هذا الموقف، ويعمي بصره عن الضرورة الاستراتيجية لوجود أداة قوية بيد الدولة تمنحها القوة و الاستقرار الاقتصادي كالصناعة. إذ يحاول البعض في الأزمة الراهنة، أن يمرّر، ما مُنع مروره، قبل هذه الحرب الطاحنة، مُستغِلاً الظرف الدامي الطارئ، وعدم الانتباه لما يحدث اقتصادياً. إلا أن الناس المنتظرين توقف الحرب، وبناء سورية العلمانية الديمقراطية، وإطلاق الحريات فيها، وفق دستور معاصر، لن يسمحوا ببيع ممتلكات الدولة.

العدد 1105 - 01/5/2024