تقرير البنك الدولي العادي.. وردّ «المركزي» الخشبي

 لم يك مفاجئاً تقرير البنك الدولي، الذي رأى انخفاضاً في احتياطي العملات الأجنبية لدى مصرف سورية المركزي، وباستثناء الموقف العام من البنك المذكور وسياساته، لا يوجد جديد في التقرير الصادر مؤخراً. بل إنه لامس كبد الحقيقة، وجدد ثانية ما تناولته وسائل الإعلام المحلية والمحللون والأكاديميون والقوى الوطنية، الذين حذروا من الأخطاء التي ارتكبها المركزي في معرض إدارته ملف القطع الأجنبي.

يتعامل المركزي بعقلية المؤامرة في سعر الصرف، وكل إجراءاته التي اتخذها لم تُرضِ أحداً، وتعرضت للنقد الشديد، إلا أن المركزي تعامل معها بلا مبالاة شديدة. الآن تقرير البنك الدولي، لا يخرج إطلاقاً عن الواقع، وذلك بالاستناد إلى المؤشرات المعلنة سابقاً، حول حجم الاحتياطي النقدي الذي كانت تملكه سورية، والبالغ 18 مليار دولار حسب تقديرات المركزي ماعدا احتياطي الذهب، وتداعيات الحرب الطاحنة المستمرة فيها منذ خمس سنوات، وخسائرها الكبيرة. لكن المركزي، وبدلاً من أن يصحح سياساته، ويعيد النظر ببعض مواقفه، ويقر بالأخطاء التي ارتكبها حاكمه ومجلس النقد والتسليف، ذهب إلى المطرح الخاطئ، وشكك بنوايا البنك الدولي، معتبراً في بيان له أن الهدف من الحملة الشرسة ضد سورية واقتصادها وليرتها هو (زعزعة ثقة المواطنين بعملتهم وإثارة الخوف والهلع لديهم بشأن مسار سعر الصرف المستقبلي). إن الرد الذي قدمه المركزي بلغة خشبية، لا يرقى إطلاقاً للموقف الذي سجله البنك الدولي بتقريره، و تضمن معلومات ليست مثار جدلٍ. إذ من الواضح، أن المركزي استند برده إلى الخطاب المرفوض ذاته الذي يتوجه به للناس. فعقب خمس سنوات من الحرب، لا تسمن أو تغني من جوع عبارة زعزعة الثقة بالليرة، هذا يشكل محاولة لحجب الشمس بغربال، كما أن الزعم بعدم التعاون بين المركزي والبنك الدولي، حجة غير دامغة، وموقف ضعيف للمركزي.

 من الصعب التصديق أن المركزي لا يتعاون مع البنك الدولي، وللوهلة الأولى يبدو هذا الموقف صحيحاً، لكن الحكومات السورية المتعاقبة تطبق بدقة توجهات البنك المذكور، وتنفذ أجنداته، بصيغ مختلفة، فكل ما قدمته تلك الحكومات من بيانات، واتخذته من مواقف، يصب بنهاية المطاف في رغبات المنظمة الدولية، التي لا تخفي خططها لجهة رفع كل أشكال الدعم، وتطالب بلبرلة الاقتصادات، والالتزام بمبدأ العرض والطلب والتخفيف من التدخل الحكومي في الحياة الاقتصادية، وغيرها من الإجراءات التي لا تناسب اقتصادات دول العالمثالثية.

سورية طبقت غالبية وصفات البنك الدولي ( وصندوق النقد الدولي أيضاً)، دون أن تستفيد من المعونات التي يقدمها، فكانت من الدول القليلة في هذا المجال التي نفذت الأجندات المرفوضة وطنياً، دون أن تقبض الثمن. تتعاون سورية مع المنظمات الدولية، لأنها دولة مؤسِّسة لهذه المنظمات، وهي جزء من منظومة دولية، ولا يمكن القبول أن تكون سورية دولة خارجة عن القانون الدولي، وأي موقف يخالف هذه القاعدة مرفوض، دون المساس بالسيادة الوطنية.

يعلم القاصي والداني، أن حرباً ضروساً كالتي تتعرض لها سورية، ستؤدي فعلاً إلى خفض احتياطي القطع الأجنبي، ولا ندري لماذا يشعر المركزي السوري بهذه الحساسية المفرطة من تقرير البنك الدولي؟ وزجّ نفسه في معركة إعلامية غير ضرورية، وصلت إلى حد أن يكيل المركزي لنفسه المديح، ويشيد بحنكته، هل هذا يسهم في تحسين سعر الصرف؟ وهل يؤدي إلى ترميم احتياطي القطع الأجنبي؟ من المؤكد، أن توقف عجلة الإنتاج، والتدمير الذي لحق بالمنشآت، وتضرر القطاعات الإنتاجية الحقيقية، وتوقف قطاعات أخرى كانت ترفد خزينة الدولة بالقطع الأجنبي، كالسياحة، كل هذا وغيره كثير، كانت نتيجته المريرة استنزاف احتياطي القطع الأجنبي. ثمة توافق على أن المركزي لم يُدِرْ معركة سعر الصرف بحنكة، ما فعله أعطى مفاعيل عكسية، واقتصر على بيع القطع الأجنبي بالمزادات لشركات الصرافة، وإصدار الكثير من القرارات المتعلقة بتمويل المستوردات. قد نتفهم حساسية تقرير البنك الدولي، وخطورته، لكننا لا نقبل مطلقاً أنه أتى بجديد، ولا نستبعد صوابية ما ذهب إليه بانخفاض احتياطي القطع الأجنبي، وتراجعه من 20 مليار دولار إلى 700 مليوناً، وفقاً للتقرير، لكننا نأسف على تضييع المركزي الفرصة ليشرح موقفه، ويعبر عن مدى الضرر الذي لحق باقتصاد بلدنا.

 مشكلتنا مع المصرف المركزي وحاكمه، ومجلس النقد والتسليف، أنهم لا يدافعون عن الليرة، ولا يضعون خططاً تسهم في تعزيز الثقة بها، وغير قادرين على استثمار أي مناسبة أو موقف إيجابي لمصلحة الليرة.

وإذا تركنا قضية تقرير البنك الدولي جانباً، هل يشعر القائمون على رسم السياسة النقدية، أنهم دافعوا عن الليرة؟ وهل بنوا تحصينات تحميها؟ بالتأكيد لا، فالليرة التي فقدت 90% من قيمتها، وكل الظروف تشير إلى أن أسباب تدهور سعر صرفها مستمرة، لم تعد بحاجة إلى من يدافع عنها بهذه الطريقة التقليدية البائسة، أي بالتصريحات. تحتاج ليرتنا إلى من يوقف نزيفها، ويرمم خسارتها، ويزيد من منسوب الثقة بها. وما عدا ذلك، لن ينفع شيء، وسيبقى فقاعات هوائية. لذلك كنّا بحاجة أن يوضح المركزي موقفه، و أن يقر بالحرب الاقتصادية التي بددت احتياطي العملات الأجنبية، و أثقلت الدولة بديون كبيرة، وأن يتحدث عن الدور الذي لعبه تجار العملات- بالتواطؤ مع دول عدة – نتيجة عدم إمكانية السيطرة على سوق العملات المحلية. إضافة إلى الإجراءات الفاشلة التي اتخذها المركزي، لضبط سعر الصرف، والانفلات الذي حدث في سعر الليرة أمام العملات الأجنبية.

على مدار السنوات الخمس الأخيرة، لم تتعامل الحكومة السورية مع التقارير الاقتصادية، الدولية أو الصادرة من مراكز الأبحاث، بشكل فاعل، ولم تنظر إليها بمرونة اقتصادية تقتضيها المرحلة القاسية التي تمر بها البلاد، ولم تستثمرها بالطريقة المناسبة، وضيعت فرصاً كثيرة في هذا الشأن. وكان المنطق الوحيد الذي اعتمدته هو منطق الرفض الكلي لهذه التقارير، والتشكيك بقيمتها، والتقليل من أهميتها، وهذا يصلح كحملة إعلامية في قضايا لا تتصل بالاقتصاد، وبعيدة عن المسألة النقدية، لأنه في الاقتصاد الواقع يعبر بصدق، ومهما حاولت التقارير رسم هذا الواقع بطريقة مختلفة، تبقى عدة عوامل أخرى أقوى من كل الآراء والمواقف والتحليلات وربما النظريات. إننا بحاجة ماسة إلى جهة علمية قادرة على التعامل مع هذه التقارير بحنكة وذكاء، وأن تستفيد من فرص تمنحها هذه التقارير، لتغيير واقع مرير أو تعديله ، أو التقليل من حجم المأساة الاقتصادية السورية.

العدد 1107 - 22/5/2024