في طرطوس… احتكار وفوضى في الأسعار!

 قد يكون الحديث عن الأسعار ووفرة المواد التموينية والتخبط والفوضى في حركة السوق في هذه الظروف الصعبة التي تشهدها سورية، من أكثر الأحاديث التي يتبادلها المواطنون وينتظرون حلاً جذرياً لها يريحهم ممّا يثقل جيوبهم، خصوصاً في هذه المرحلة ونحن على أبواب العام الدراسي الجديد. أضف إلى ذلك سعي العائلات إلى تأمين ما يسمونه مونة الشتاء، من مربيات ومكدوس ومخللات.. ولن أدخل في متاهة الوقود. وإذا كانت الأزمة قد أرخت بكل ثقلها على مفاصل عديدة في حياة المواطن السوري وقيّدته بشكل بات يحسب ألف حساب لكل حركة ينوي القيام بها، حتى ولو كانت تلك الحركة تتعلق بزيارة جاره لتناول كأس من المتة (المتأرجحة بين الاحتكار ورفع السعر ثم إغراق السوق بها)، أو الشاي (في ظل توقف توزيع تموين السكّر على البطاقات التموينية لأسباب يجهلها المواطن)، أو حتى زجاجة عصير (في ظل رفع سعرها أو فقدانها من السوق بشكل كامل).
إذاً هناك معاناة حقيقية بحاجة إلى حل، ولا بد من تضافر الجهود، سواء من المواطن أم من الحكومة متمثلة بالجهات الرقابية، علماً أننا جميعاً نعي حجم المؤامرة التي نتعرض لها والعقوبات الظالمة التي فُرِضت علينا في ظل غياب حقيقي للبدائل التي كان يمكن أن تقلل من أثر هذه العقوبات فيما لو امتلكت الحكومات السابقة المتعاقبة بُعد نظر وتخطيط وتفكير حقيقي وجدّي بالوطن والمواطن!
مواد مفقودة، ومواد رُفع سعرها رفعاً جنونياً، ومواد تتأرجح بين الانقطاع والوفرة، وتجار الألبسة يتحولون إلى تجار أزمة، فنجد لديهم المتة والسكر ومواد التنظيف أحياناً ولكن بأسعار تكوي جيوب الطبقة المتوسطة والفقيرة، أولئك الذين ندعوهم بأصحاب الدخل المحدود! تجار الفحم يتحولون إلى تجّار لمادة المعسّل المهرّب بأسعار جنونية، وبائعو اليانصيب يبيعون المتة على عينك ياتموين، بأسعار مرتفعة. وكثير من الحالات التي رصدناها في محافظة طرطوس خلال جولتنا على العديد من الأسواق التجارية فيها واللقاء مع بعض المواطنين الذين أبدوا تفهمهم للوضع الجديد الذي فرضته الأزمة، وكان عتبهم على الجهات الرقابية (التموين وحماية المستهلك) التي فسحت المجال لبعض التجار الكبار – قليلي الضمير- بالتحكم بالسوق وبالأسعار، وبالتالي استثمار الظروف التي تمر بها البلاد لمزيد من الربح، ضاربين عرض الحائط بمصلحة الوطن وبالتالي المواطن.
السيد مظهر عبد الله تحدث في البداية عن الآثار السلبية الكبيرة للأوضاع الأمنية التي تمر بها البلاد، على حركة التجارة بشكل عام، موضحاً أن هناك بعض التجار الكبار الذين يعملون على تأجيج الوضع سوءاً من خلال تحكمهم ببعض السلع، وبالتالي فقدانها من السوق فقداناً كلياً أو جزئياً، الأمر الذي يؤدي إلى رفع سعرها رفعاً غير معقول. وأضاف أن المواطن المضطر للسلعة سيشتريها مهما كان سعرها. ولدى سؤاله عن دور الجهات الرقابية، أكد أنهم لا يقومون بواجبهم، فهم في المكاتب ينتظرون صحوة مواطن من هنا أو هناك كي يبلغهم عن حالة معينة ليتحركوا. وفي أغلب الأحيان تنتهي المسألة (سلمية) كما يقال.
وتساءل السيد مظهر عن دور الجهات التموينية فيما يتعلق بموضوع الفوترة، وضرب مثلاً على ذلك ثمن الكيلو الواحد من البزر الأبيض من محمصة العنازة حسب الفاتورة 140 ليرة، في حين قبض منه تاجر الجملة ثمن الكيلو الواحد من المادة نفسها 175 ليرة.. أما أنا فأبيعه بمبلغ 220 ليرة، فكيف سأتمكن من الالتزام بالفاتورة؟! أذكر أنه في التسعينيات كان التاجر يساق فوراً إلى السجن في حال ضُبط بأي مخالفة بالأسعار أو أي حالة غش. أما الآن فحدّث ولا حرج.. أتمنى أن يكون هناك تدرّج في العقوبات لتكون رادعة! وعند سؤاله عن التزامه بالنشرة التموينية التي تصدر، قال بأنه غير قادر على الالتزام بها، لأنها لا تتطابق مع الواقع أبداً، إذ هناك الكثير من الزيادات التي تطرأ على السعر بسبب عمليات الشحن والنقل.. لم أسمع بأي عنصر تموين أو عنصر حماية مستهلك يقوم بجولة على المحلات! أتمنى من السيد وزير التجارة الداخلية أن يحقق ما هو مأمول منه في هذه المرحلة الحرجة، ويقرن الأقوال بالأفعال. مع علمنا المسبق بأن المرحلة تتطلب رجالات دولة بكل معنى الكلمة وثقتنا به كبيرة.
السيد أبو مقداد، بائع أوراق اليانصيب والمتة في مدينة الدريكيش، التقيت به بينما كان يجلس بجانب كمية كبيرة من علب المتة المسّعرة بمبلغ 70 ليرة سورية، لكنه يبيعها بمبلغ 90 ليرة، ولما سألته عن السبب تذرّع بأنه اشتراها من محل الجملة بمبلغ 85 ليرة.. وأضاف أن من يشتهِ المتة فعليه أن يدفع ثمنها مهما كان! وأضاف بأن البضاعة مقطوعة، وهذا هو السبب في ذلك.
السيد أبو حسن تحدث عن النشرات التموينية قائلاً: النشرات التموينية لا تصل إلينا، والأسعار كيفية، والرقابة التموينية صفر.. نريد منهم مراقبة أسعار المواد التموينية من خلال توزيع عناصر الرقابة التموينية وحماية المستهلك على الأسواق. فمثلاً في كل أنحاء سورية لا تباع لحمة الخروف مع لحمة العجل في المحل نفسه وبالبراد نفسه، إلاّ هنا في الدريكيش، فأنت عندما تذهب لشراء اللحمة لا تعرف إن كانت لحمة خروف أم لحمة عجل، وكلها تباع على أنها لحمة خروف. يجب أن يكون هناك رقابة من المسلخ.
ويضيف السيد أبو حسن: للأمانة عندما يشتكي الشخص، فإنهم يقومون بتنظيم ضبط، ولكن المواطن يقول (خليها تطلع من غيري). ثم تحدث عن هامش الربح الكبير في التسعيرة التي تحددها الجهات التموينية، فمثلاً – يقول أبو حسن – لديّ في المحل سعر زوج الملاحف حسب التسعيرة 1600 ليرة، في حين أبيعها بمبلغ 600 ليرة، فلماذا كل هذا الهامش من الربح؟! وعن السبب برأيه في زيادة أسعار بعض المواد، أوضح أن أجور النقل هي السبب في ذلك.. وأضاف: برأيي من المستحسن ألا يطيل عنصر التموين المكوث في منطقة معينة، بل يجب نقله كي لا تتوطّد العلاقة بينه وبين التاجر.. وكلنا يعلم نتائج علاقات كهذه! وفي موضوع آخر تمنى السيد أبو حسن أن يقوم السيد المحافظ بزيارة لمنطقة الدريكيش للوقوف على المشاكل فيها، أسوة ببعض الوزراء وألا يطيل الجلوس في مكتبه!
السيد عماد نصر تحدث بسخرية عمّا ندعوه حماية المستهلك، وتساءل عن دورهم في ضبط الأسواق والأسعار، في ظل هذا الفلتان الذي تعيشه السوق: سابقاً كانت الفاتورة هي الإثبات الفعلي لسعر السلعة، أما الآن فلا أحد قادر على إعطاء فاتورة، لأن ما سيكتب على الفاتورة شيء والسعر الفعلي شيء آخر.. حماية المستهلك يجب أن تقوم بمراقبة وكبح جشع التاجر الكبير الذي يتحكم بالسلعة وبالسوق وبالأسعار. وعند سؤاله عن سبب تذبذب الأسعار قال: هناك شيء مهم يجب أن نأخذه بالحسبان، وهو زيادة أجور النقل، بسبب الحالة الأمنية ونقص الوقود.. فمثلاً كانت أجرة السيارة إلى حمص أقل من 1000 ليرة، أما الآن فالأجرة بحدود 5000 ليرة. تجار الأزمات الكبار هم الذين يحتكرون المواد ويمنعون بيعها أو يرفعون سعرها، وهؤلاء هم الذين يجب مراقبتهم ووضع حد لهم.
ثم لماذا لا تقوم الحكومة بطرح كميات كبيرة من المواد الأساسية والضرورية من خلال المؤسسات الحكومية في كل محافظة؟! التاجر الصغير كما يقال (بالع الموس عالحدين).. أتمنى من أصحاب الشأن في الجهات الرقابية والتموينية بأن يحكّموا ضمائرهم.. سمعنا الكثير من الوعود والكلام المطمئن من  المعنيين في وزارة التموين، وكلنا ثقة بالسيد وزير التموين والتجارة الداخلية، بأن يضع حداً لهذا الوضع المتردي.
السيد باسم حمدان أبو خضر تحدث عن عدم مطابقة النشرات التموينية للواقع، علماً أنه لم يتلق أي نشرة تموينية منذ نحو ستة أشهر، واستغرب كيف تحولت مؤسسات الدولة إلى حكر لبعض التجار. فكل تاجر كبير يتعامل مع مؤسسة كبيرة يحصل على كل إنتاجها وهكذا. قبل هذه الفترة كانت المؤسسات منافسة حقيقية لأصحاب المحلات. لايمكن للتموين  وحماية المستهلك أن يتخذ أي إجراء في هذه الظروف الصعبة لعدة أسباب، منها نقص البضاعة وتوقف عدد كبير من المعامل عن الإنتاج  والظروف الأمنية. هناك تهرّب من المنتِج الذي يعطي الفاتورة بسعر معين ويقبض ضعف هذا السعر على أرض الواقع أحياناً، وأنا كتاجر أدفع الثمن. هناك أمر هام وهو زيادة سعر النايلون، فكل غرض يحتاج إلى كيس نايلون وثمن الكيلو من أكياس النايلون 240 ليرة.
الأديب والباحث يوسف مصطفى تحدث بهذا الخصوص قائلاً: هذا الموضوع يخضع لعدة أطراف.. فهناك تاجر الجملة وتاجر المفرق والرقابة وعدم جرأة الموطن ليأخذ دوره بشكل صحيح. فالمواطن (وأعني المواطن بالمعنى الجمعي) عندما يكون جريئاً ويشتكي ويراجع ويواجه يمكن أن يحد من جشع التاجر، إضافة إلى ضرورة التخفيف من بعض العادات الاستهلاكية.. فعندما تُحتكر سلعة بغية زيادة ثمنها، على المواطن أن يقاطع هذه السلعة. يجب أن تكون العملية متكاملة بين المواطن والجهات الرقابية والتموينية في المحافظة. لا أعتقد أن الظروف الأمنية لا تؤثر في زيادة السعر (على الأقل بالنسبة لمحافظتي طرطوس واللاذقية).
في تقديري تقاطعت كل المصالح، وخصوصاً لدى من يفكر بالربح قبل التفكير بالوطن والمواطن. ذهنية التاجر ذهنية ربحية، وأرى أن فوضى الأسعار انعكست على الطبقة المتوسطة والفقيرة وهي الطبقة الكبيرة في المجتمع. إن تدخّل الدولة من خلال طرح العديد من المنتجات والمواد الضرورية في مؤسساتها سيخفف من العبء المعيشي لهذه الطبقات، لأنها تبيع بأسعار مقبولة، وهناك الكثير من المناطق تفتقر إلى مؤسسات كهذه. لا بد من إعادة تفعيل مثل هذه المؤسسات. التموين يطلب من المواطن شكوى بشكل نظامي.. هناك من يؤدي دوره كاملاً، وهناك من يتقاعس تهرباً من المشاكل. وفيما يتعلق بالصلاحيات أكد الأستاذ يوسف أن الصلاحية ممارسة وليست قراراً أو تفويضاً خطياً، والممارسة تحتاج إلى قناعة، ولكن هناك من لا يريد المواجهة ولا يريد إزعاج نفسه.
السيد عيسى ابراهيم، رئيس شعبة تموين الدريكيش، تحدث عن الأسباب التي تقف وراء الفوضى في الأسواق، منها الظروف التي تمر بها البلاد، ووجود تجار أزمة لا ضمير لهم، إضافة إلى غياب الدور الرقابي للمواطن.. فأنا – يضيف الأستاذ عيسى – لا أعلم إن كان المواطن الفلاني قد دفع ضعف ثمن السلعة إن لم يتقدم بشكوى حسب الأصول، ليصار إلى رفعها إلى مديرية تموين طرطوس وتحويل المخالف إلى القضاء أصولاً. نقوم بالدوريات حسب ما هو مخطط، ونحن على استعداد لتلقي شكاوى المواطنين في أي وقت. وعند سؤاله عن التدرج بالعقوبة لتكون رادعة بحق المخالف، أوضح أن هناك تدرجاً في العقوبة تصل بعد ثلاث مخالفات إلى حد سحب الترخيص، ولكن لا يعرف إن كان يطبق أم لا، ومنذ بداية خدمته حتى الآن لم يسمع أن هناك تاجراً مخالفاً سُحبت رخصته.

كلمة سنقولها دون رقابة
نتمنى أن يصحو ضمير الجميع، التاجر والمسؤول والمواطن، لأن المرحلة التي نمرّ بها صعبة جداً ودقيقة وتستوجب منّا ترك مصالحنا الشخصية الضيّقة لصالح المصلحة العامة، وبالتالي مصلحة الوطن. على الرغم من أننا صرخنا وحذّرنا سابقاً من خطورة ممارسات البعض، ولكن لم يكن لأصواتنا وصراخنا أية قيمة يومئذ، ولم يكن لها أي صدى لدى المستفيدين الذين وضعوا أصابعهم في آذانهم واكتفوا بما يحققونه من أمجاد ومنجزات وثروات على حساب المواطن والوطن!
 

العدد 1105 - 01/5/2024