مؤتمر جنيف 3… مفاوضات الأمر الواقع

 في مشهد يبدو غير مألوف في تقاليد المفاوضات بدت انطلاقة مؤتمر جنيف3 لوحة غير مضبوطة. ففي مقابل الوفد الحكومي، هناك معارضتان بأسماء مختلفة: معارضة الداخل ومعارضة الخارج، أو المعارضة المنبثقة عن مؤتمر الرياض، والمعارضة العلمانية. أو المعارضة الممثلة لـ (الثورة) السورية، والمعارضة (الموالية) للنظام! وبينما معارضة الداخل التي هي في الحقيقة الأكثر احتكاكاً ومعرفةً ومعايشةً لتطورات الأزمة السورية، تبدو في المؤتمر الأقل حضوراً عددياً، والأبعد عن الاهتمام، مقارنة بالمعارضة الخارجية التي ربما لا تعرف الواقع السوري أكثر مما تعرفه من خلال صحيفة عكاظ وتلفزيون العربية.

وفي تفاصيل المفاوضات: دخل أحد الوفدين وهو الوفد الحكومي المفاوضات وهو لا يعرف أسماء الوفد الذي سيفاوضه، وقال رئيس الوفد السوري الحكومي أنه قُدمت له قائمة من 12 اسماً من أصل 17 مفاوضاً. ومع بداية المؤتمر التقى وفد الرياض مبعوث الأمم المتحدة ستيفان دي ميتسورا، وخرج الطرفان، فقال الأخير: بدأت المفاوضات، وقال المتحدث باسم معارضة الرياض: لم تبدأ. ونائب رئيس وفد الرياض يطالب بقوة بالانسحاب من المؤتمر، ورئيس هذا الوفد يطالب بالتريث. وتعقيباً على العملية الإرهابية الشنيعة في السيدة زينب التي أعلن (تنظيم الدولة) تبنّيه لها، يدين مجلس الأمن بالإجماع وبأشد العبارات قساوة هذه العملية، بينما كبير المفاوضين في وفد الرياض لا يدينها، ثم يتهم الناطق باسم هذا الوفد النظام السوري بأنه الفاعل!. في هذا المشهد غير المتناسق والفوضوي ظهر الوفد الحكومي السوري اكثر تنظيماً ووضوحاً، يقوده السيد بشار الجعفري، المتمرس في كشف دهاليز المعارضة وأساليبها، بعدما اختبرها سابقاً في موسكو وفيينا وجنيف. كما ظهرت المعارضة السورية الداخلية رغم التفاوتات الشخصية بين أعضائها، في موقف ثابت نسبياً.

بدأ المؤتمر كلقاء مكوكي ولم يبدأ كمفاوضات، والقاعة الي استقبل فيها دي ميتسورا الوفد الحكومي هي نفسها التي استقبل بها الوفد المعارض، لكن في أوقات مختلفة. وأصر مفاوضو وفد الرياض على التمسك بالبندين 12 و13 من القرار 2254 قبل البدء بالمفاوضات، فيما رفض الوفد الحكومي أي شروط مسبقة. وبين هذا وذاك قامت إدارة الفندق الذي يقيم فيه أعضاء وفد الرياض بإزالة تمثالين عاريين من بهو الفندق، في إشارة ضمنية قد تكون مقصودة أو لا، تُظهر المضمون الإيديولوجي البدائي الذي يتبناه هذا الوفد. ومع انسحاب وفد الرياض، بعد خطاب إقصائي للمنسق العام لوفد الرياض مشابه لخطاب السُّلطة عندما كان محافظاً لإحدى المحافظات الساحلية السورية.

 لجأ مبعوث الامم المتحدة ستيفان دي ميتسورا إلى تعليق المفاوضات إلى نهاية هذه الشهر، وقد نقدت المعارضة الداخلية على لسان أحد أعضائها السيد فاتح جاموس هذا التعليق.

من المؤكد أن مفاوضات جنيف باقية، ربما دون أرقام لكنها ستستمر، وقد تتصادم بمفاجآت غير محسوبة، وبالنسبة لوفد الرياض يبدو هذا أكيد الحصول مع التطورات المتسارعة في معركة حلب، لقد حقق الجيش السوري مع تأجيل مؤتمر جنيف3 تقدماً كبيراً في ريف حلب الغربي، ويبدو أن الواقع الميداني الجديد لتحرير بلدتي نبّل والزهراء سيفرض على وفد الرياض خيارات محدودة مستقبلاً في التعامل مع شرطه الذي طرحه أمام دي ميتسورا، ألا وهو البدء في هذه المفاوضات من البندين 13 و،14 وسيضطر وفد الرياض إلى القبول بالمسار الذي وضعه غاتيلوف- باترسون، وهو الدخول مباشرة في مناقشة العملية السياسية وتطبيق مجمل بنود القرار ،2254 التي تنص على تشكيل حكومة، ثم تعديلات دستورية، ثم انتخابات رئاسية يشارك فيها الرئيس السوري.

وتسعى روسيا والولايات المتحدة السير في هذه المفاوضات بشكل سريع لقطع الطريق على الداعمين الرئيسيين لوفد الرياض، تركيا والسعودية من أن يحولا مؤتمر جنيف3 إلى المصير نفسه لكل من جنيف1 و،2 واغراقه بالشروط المسبقة والنصوص القابلة للتأويل، وبالتالي إبقاء الأزمة السورية مستمرة دون حل سياسي. لقد توجس مبعوث الامم المتحدة خطراً من محاولات هذا الوفد الإطاحة بالمؤتمر، وقال (إذا فشلت هذه المرة، بعدما حاولنا مرتين في مؤتمرات في جنيف، فلن يكون هناك أمل آخر بالنسبة إلى سورية. علينا قطعاً محاولة ضمان عدم فشلها). لكن إذا نظرنا إلى الواقع الميداني فإن استمرار مفاوضات الحل السياسي للأزمة السورية في جنيف أو أي مكان آخر هو أكثر واقعية، إذ إن أوراق تركيا والسعودية المعنيتين تماماً بتعطيل مسار جنيف لا تنفك تتلاشى يوماً بعد يوم، ولكن لابد من مرحلة زمنية للاقتناع الاستراتيجي لتلك الدولتين بأن التحولات الدولية والإقليمية لم تعد لصالح مشروعهما في سورية، وهذه المرحلة قد تمتد 6 إلى 8 أشهر، وهي فترة زمنية قريبة للفترة التي وضعتها روسيا والولايات المتحدة لانتهاء المرحلة الأولى من المفاوضات السورية-السورية.

العدد 1105 - 01/5/2024