نزاعات وحروب المنطقة والنظام العالمي

 الشرق الأوسط المستجد (وهو غير الجديد) بات أرضاً للنزاعات المدوّلة والأكثر احتداماً منذ انتهاء الحرب الباردة، ولا يقارن بغيره من الأزمات المحدودة في أوكرانيا وجورجيا في السنوات الأخيرة والتي جرى تطويقها..

نزاعات أوربا الشرقية وجنوب شرق آسيا وسواها هي مزيج من نزاعات تتحكم بها موازين القوى بين الدول في أبعادها القومية وركيزتها الدولة الوطنية ومنها دول نووية.. أما نزاعات الشرق الأوسط وحروبه، فيطغى غليها الطابع الديني والمذهبي والمنحى الإلغائي داخل الدول وفيما بينها، وتتداخل فيها مصالح إقليمية ودولية متعددة، إضافة إلى أن هذه النزاعات والحروب مفتعلة ومدبرة ومخطط لها بدقة وإمعان من الغرب بقيادة الولايات المتحدة التي تديرها عن بعد عبر مجموعات إرهابية مسلحة تقوم بدور الوكيل المؤتمن، وتعمل على إدامتها وليس إيجاد حلول لها كما تدعي أمام العالم.. هذا مع العلم بأن لكل أزمة من أزمات الشرق الأوسط ونزاعاته ظروفها الخاصة ومصالح أطرافها المستور منها والمعلن.

– في ليبيا هناك ما يمكن أن يسمى مشروع إعادة بناء الدولة في إطار نظام سياسي متعدد الانتماءات، إلا أنه من الصعب أن يرى النور على طاولة المفاوضات وحدها بعد أربعة عقود من الاستقرار الذي عاشته في عهد الرئيس معمر القذافي.. فالأوضاع في ليبيا من السوء أكثر من أن توصف.. فقد غدت البلاد ميداناً للميلشيات المتعددة التي تتقاتل على المكاسب والثروة، كما أصبحت موئلاً ومصدراً للإرهاب في المنطقة وفي العالم.

لقد بات استقرار ليبيا بعد أن فعل بها (الناتو) ما فعل وأوصلها إلى هذا الوضع المأسوي، بات حاجة دولية مثلما هو حاجة ليبية لاسيما بعد أزمة اللاجئين التي أربكت الدول الأوربية.

– اليمن حالة أخرى من حالات النزاع القديم – الجديد والمتجدد مع (عاصفة الحزم السعودية) التي أتت على الأخضر واليابس، ومضى عليها ما يقارب عاماً من دون أن تستطيع السعودية تحقيق أهدافها بإقامة حكم تابع لها.. وهذه العاصفة الظالمة عمقت الانقسامات في اليمن قبلياً ومذهبياً وسياسياً ومناطقياً، فأصبح لهذه الانقسامات أبعاد إقليمية ودولية غير مسبوقة، وهذا يعني أن أية تسوية مقبولة في اليمن بحيث ترفع أيادي السعودية عنها، لاتزال بعيدة المنال، على الرغم من الاهتمام الدولي بذلك، وخاصة في ظل قطع العلاقات بين إيران والسعودية وتوتر الأوضاع بينهما.

– سورية أصبحت وكأنها ساحة مفتوحة لنزاعات المنطقة والعالم، فالأطراف التي كانت وراء هذه الحرب الإرهابية التي تشن عليها وفي مقدمتها الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوربا وتركيا والدول العربية الضالعة في هذه الحرب تسليحاً وتمويلاً مثل السعودية وقطر و(الأردن إلى حد ما) لا مصلحة لأي طرف منها في أن تنتهي هذه الحرب في سورية وعليها في وقت قريب. صحيح أن قرار مجلس الأمن رقم 2254 وضع خريطة طريق لإدارة النزاع وإيجاد حل سياسي له، مع التأكيد على ضوابط له بفضل الموقف الروسي والصيني القوي والمتزن في مجلس الأمن، إلا أن دولاً كبرى فاعلة مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا غير جادة في تطبيق هذا القرار، ولاسيما فيما يتعلق بوحدة سورية، ومحاربة الإرهاب وتجفيف منابعه، إلى جانب أنها لم تردع تركيا والسعودية وقطر عن استمرار تزويد المجموعات الإرهابية بالمال والسلاح، هذا إلى جانب التغاضي الأمريكي الغربي عن ممارسات السعودية لتعطيل الوصول على حل يُرضي السعوديين أنفسهم من خلال استضافتها لمؤتمر ما يسمى المعارضة السورية الذي حضرته منظمات إرهابية معروفة وملوثة أياديها بدماء السوريين، مثل أحرار الشام وجيش الفتح وغيرهما.. وكذلك من خلال تلاعبها باللائحة المطلوب إعدادها بالمنظمات الإرهابية، وأخيراً تصعيدها ضد إيران من خلال إعدام الشيخ نمر النمر وقطع العلاقات مع السعودية، وقصف طائراتها للسفارة الإيرانية في اليمن، ويأتي هذا التصعيد كخطوة مبرمجة لتعطيل المحادثات المزمع إجراؤها في جنيف في 25 الشهر الجاري.

– العراق.. مازال يتصدى لتنظيم داعش الإرهابي الذي يمثل جزءاً غير قليل من الأراضي العراقية، ويقوم بتنفيذ التفجيرات الدموية التي تودي بحياة مئات العراقيين الأبرياء، كما أن تركيا التي دعمت داعش بالأصل ومكّنتها من السيطرة على أجزاء من الأراضي العراقية، عمدت مؤخراً إلى إرسال وحدات عسكرية تركية إلى العراق تحت ستار محاربة الأكراد، بينما الهدف الرئيسي التركي من ذلك هو محاولة اقتطاع الموصل وضمها إلى تركيا. إلى جانب ذلك فإن الولايات المتحدة عبر التحالف الدولي الذي تقوده بذريعة محاربة الإرهاب، لم تكن جادة في مساعدة العراق على دحر داعش وهزيمته، والأدلة على ذلك كثيرة ومعروفة للجميع، فالهدف الأمريكي هو إبقاء العراق منهكاً ومفككاً تسوده الفوضى والنزاعات المحلية.

إذاً من خلال ما تقدم يتضح أن منطقة الشرق الأوسط أصبحت ساحة لنزاعات غير مألوفة في ظل نظام عالمي تتجاذبه موازين قوى غير متكافئة وسياسات مبعثرة تقوم قبل كل شيء على تحقيق مصلح خاصة، هذا مع العلم بأن القرار الروسي الجريء في مواجهة الإرهاب في سورية شكل انعطافاً حاسماً في التأثير في النظام العالمي الذي تعمل واشنطن على إبقاء الهيمنة عليه وتوجيهه كما تريد.

إن روسيا بقيادة الرئيس بوتين تريد وتعمل جادة على إيجاد حلول ناجعة ومقبولة للأزمات في سورية واليمن وليبيا، وفي الوقت نفسه لم تعد تسمح للولايات المتحدة بأن تنفرد في قيادة العالم من دون أن يشاركها أحد في القرار العالمي، وهي تربط ذلك أو تترجمه بمواقف ملموسة كما جرى في أوكرانيا وقبلها جورجيا.. وكما يجري في سورية الآن.

من هنا يبرز السؤال التالي: هل تكون نزاعات المنطقة، ولاسيما منها الحرب الدائرة على سورية وفيها، حافزاً لتسريع تشكل نظام عالمي جديد أكثر ثباتاً من الحالة التي نشأت منذ انتهاء الحرب الباردة؟ أم أن المطلوب أن تبقى الأزمات مشتعلة هنا وهناك والإرهاب يضرب في هذه الجهة أو تلك، وتبقى الشعوب المغلوب على أمرها ضحية هذا الإرهاب الدموي؟!

ومن المؤسف أن العرب غائبون، أو الأصح مغيّبون عما يجري، وبعضهم ضالع – شاء أم أبى- في تنفيذ مخططات غربية مدروسة بدقة، هدفها الرئيسي استمرار نهب النفط العربي وتسييد إسرائيل على المنطقة والحفاظ على أمنها وتفوقها العسكري على العرب مجتمعين.

العدد 1105 - 01/5/2024