رئيف خوري… الكاتب التنويري

في الثاني من تشرين الثاني عام 2013 عُقد في قصر الأونيسكو في بيروت المؤتمر الذي دعا إليه المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، والحركة الثقافية في أنطلياس. بالاشتراك مع بلدة نابَيْه وبلديتها، وعائلة رئيف خوري بمناسبة الذكرى المئوية لهذا المفكر الاستثنائي، وذلك: بحضور حشد كبير من المفكرين والمثقفين والوجوه الاجتماعية والنقابية والسياسية من لبنان والبلدان العربية.

تنوعت محاور المؤتمر وتشعبت وأدركت خوري في مجالات إبداعه كافة مفكراً وسياسياً وناقداً وأديباً وشاعراً ومناضلاً وطنياً وديمقراطياً علمانياً.

تعاقب على الكلام أسماء لامعة في مجالاتها قدمت بحوثاً ومقالات وكلمات: حبيب صادق.. . د. عصام خليفة، د. شفيق البقاعي، د. يمنى العيد، د. فيصل دراج، د. ربيعة أبي فاضل، د. سماح إدريس. د. أنطوان سيف. ملكة رئيف خوري.. وغيرهم.

حاول كل منهم الإضاءة على تركة رئيف خوري الثقافية والنضالية، من أجل الحرية وحقوق الإنسان ومن أجل القيم والعدالة الاجتماعية.

وقد صدر عن المؤتمر كتاب جديد (رئيف خوري  الكاتب التنويري)، تضمن الموضوعات التي طرحت، نقتطف بعض ما ورد فيها باختصار شديد جداً:

قدم الكتاب الأمين العام للمجلس الثقافي للبنان الجنوبي، الأديب والشاعر والقائد السياسي حبيب صادق، ومما جاء في التقديم:

(إن حضور رئيف خوري استعصى على الغياب، بسبب التصاق فكره بالزمان الاجتماعي الذي يتمحور حول قوى تقول بالثورة وتعمل لها. وهو في خلال عمره القصير نسبياً أنتج من المآثر ما جعله موضع قدر المثقفين وإعجابهم به الدائم. ومن مآثره الجمة ما تدفق من قلمه الخصيب من كتب وأبحاث ومقالات وترجمات، وما تفجر بلسانه من خطب بليغة وآسرة، وقد عبر بما صدر عن قلمه واللسان، عن إيمان عميق وراسخ بمبادئ وطنية وقومية وإنسانية.

كما عبر بهما، عن مواقف بالغة الوضوح والجرأة، لا يقفهها إلا مناضل ثوري أصيل، هذا إضافة إلى ما تمتع به من فكر نقدي وماتحلى به من أخلاق سامية.

 بقي أن أشير بإكبار إلى:

أن رئيف خوري أمضى سحابة عمره مناضلاً ديمقراطياً علمانياً جسوراً، فهو عبّر بالكلمات المضيئة والصوت المنبري الجهوري عن فكره النهضوي ونزعته الاشتراكية ودفاعه عن حقوق الإنسان. كما عبر بهما عن مواقفه الساطعة من القضية الوطنية اللبنانية ومن القضايا العربية المصيرية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي وهبها زهرة شبابه على أرضها الأم في ثلاثينيات القرن الماضي.

وللتدليل على جرأته الفائقة نستشهد بخطابه الذي أطلقه على مسمع ومرأى الرئيس جمال عبد الناصر، باسم وفد الكتاب اللبنانيين الزائر قصر الضيافة بدمشق، بمناسبة الوحدة بين مصر وسورية عام 1958. لقد جاء في خطابه:

(نحن يا سيادة الرئيس، حملة الأقلام في لبنان، نقسم بشرفنا بأننا سنجعل من الأقلام التي نحملها سلاحاً ماضياً للدفاع عن القيم العظيمة وفي رأسها الحرية والديمقراطية، فهما، يا سيادة الرئيس، طريق الوحدة وتطورها). ولكن كما تعلمون، سرعان ما انهار هيكل الوحدة لغياب الحرية والديمقراطية عنها.

كما تضمنت كلمة د. عصام خليفة، (الأمين العام للحركة الثقافية  أنطلياس):

(إن الأهمية الكبرى للعمارة الثقافية لهذا الأديب جاءت خلاصة لتعمّقه في التراث العربي الإسلامي ولاستيعابه أفكار الثورة الفرنسية، ولتبحّره بتيارات الثورة الاشتراكية. لقد آمن ابن نابيه بأن واجب الأدب الأصيل هو في إذكاء حب الحرية في النفوس والإبانة عن معالم الطريق إلى الحرية. كما أنه اعتقد اعتقاداً راسخاً في الآن نفسه أنه لا فعل كفعل القلم اجتماعياً وتاريخياً بكل ما تنطوي عليه كلمة اجتماعي من شؤون الأمة والشعب، والقوم، والوطن والإنسانية. لقد كان إيمانه راسخاً بأن سلاح الأدب والفنان هو قلم وريشة، ولكل من يخالفه في الرأي أن يعارضه بسلاح القلم والريشة.

كانت الديمقراطية بمضامينها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية قضيته المحورية، فهو يقول:

(إن الخطا الأولى اتي يجب أن نوجه إليها اهتمامنا الخاص هي بناء الديمقراطية الصادقة في كل قطر عربي.

من البحث الذي قدمه د. أنطون سيف تحت عنوان (رئيف خوري مفكراً) نقتطف:

(إن ما يميز رئيف خوري هنا، أنه ينتمي إلى نظرية في الأدب، تنضوي هي بدورها تحت فلسفة كبرى هي الماركسية، ترى أن على الأدب واجب الالتزام بقضايا الشعب أو الأكثرية منه أو الكافة (كما دعاها رئيف خوري في مناظرته مع طه حسين). وهي الطبقة الاجتماعية المقهورة، والدفاع عن مصالحها، وخصوصاً تحريضها، وحتى قيادتها صوب مزيد من الحرية عن طريق تعبئتها للثورة على مضطهديها المستبدين، لاستعادة حقوقها الكاملة. وهكذا وضعت مستجدات في ثقافتنا العربية، وفي مقولاتنا الأدبية مثل: الأدب الملتزم، الأدب الحي، الأدب العامل).

 يقول د. سيف: كان يسيطر على المؤلف الشاب حماس عام يجعله متفائلاً إلى أقصى الحدود بانتصار حقوق الإنسان من غير أن يلتفت إلى تاريخها في بلاد العرب والمسلمين، وبخاصة نكساتها فيها. وفي الكتاب عرض للنظرية الماركسية وحول حقب التاريخ الإنساني وتاريخ الطبقات.. إلخ.

واللافت في النص الطويل حينذاك في الأدب العربي عام 1937 حول حقوق الإنسان كما أعلنتها الثورة – الفرنسية قبل قرن ونصف القرن، أنه يأتي قبل الإعلان العالمي الثاني لحقوق الإنسان الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة (عام 1948).

 وفي البحث الذي تناولته د. يمنى العيد، الناقدة الأدبية المعروفة: (رئيف خوري ناقداً أدبياً)، وصاحب نظرة إلى الأدب، تقول:

لا بد من الإشارة إلى أن رئيف خوري كان مثقفاً مناضلاً، وهو بصفته هذه مارس النقد للفكر في معظم تجلياته السياسية والاجتماعية والأدبية، مارس النقد في ما كان يكتب في زمنه، وفي ما كان يمارس، وفي ما قرأ من التراث، وكان في نقده يرتكز إلى أسس العدالة والديمقراطية، وحرية الفرد والمجتمع.

ويمكن القول إن النضال عند رئيف خوري كان يستوجب النقد، وإن النقد كان قرين النضال من أجل الحياة والإنسان، ولئن كانت الحياة قائمة في مجتمع وكان الإنسان فرداً في هذا المجتمع، فإنه لا يمكن للأدب حسب رئيف خوري أن يكون معزولاً عن الواقع الاجتماعي، وعن أسئلته بما هي أسئلة أبناء هذا المجتمع، أو الشعب، في تطلعه وسعيه لتحقيق شروط جمالية للحياة هي في صميم عيشه. في عمق هذا العيش، في العلاقات بين الإنسان والإنسان، بينه وبين الطبيعة والعالم. إنه نوع من الارتقاء، بالحياة البشرية، الحياة الفعلية المادية والروحية، والتي تعود بدوافعها لا إلى الوعظ وكل ما هو جاهز، بل إلى النشاط البشري، وإلى نتاجاته المبدعة للحياة.. وتضيف:

لقد كان رئيف خوري ناقداً أدبياً، ثقافياً، اهتم بجمالية الأدب الجمالية لا اللفظية، بل التي تجعل الأدب يترك أثراً في نفس القارئ، فتحركه وتوجهه إلى التغيير والنضال من أجل الحرية والعدالة.

وتحت عنوان: لماذا أريد أن أعيش؟ قالت ملكة خوري، ابنة رئيف خوري: (سؤال قد يبدو غريباً ونحن نحتفل بذكرى ميلاده، ميلاد رئيف خوري الذي جعل هذا السؤال عنوان أقصوصة كتبها عن رجل لا غاية له من الدنيا إلا راحته وأن يعيش مئة سنة.

وفي حوار بين هذا الرجل وطبيبه في القصة، يسأل الطبيب:

(هل ترهق جسمك بعمل عضلي؟ هل تحرث أرضاً أو تنحت حجارة لبناء بيت؟

هل تكدّ عقلك بتفكير؟ هل تقرأ كتب العلم أو تنظم الشعر أو تنشئ الأبحاث؟

هل تسهر على تربية طفل، أو تعنى بامرأة أم عجوز أو أب شيخ أو زوجة مريضة؟ أو أخت فقيرة أو جار تعس به الحظ؟

فيجيب الرجل بالنفي.

وتساءل رئيف على لسان الطبيب في القصة: لماذا تريد أن تعيش مئة سنة؟ بل لماذا تريد أن تعيش؟

فرئيف خوري لم يكن يفهم النظرة السلبية إلى الحياة المرتكزة على حب الذات واللامبالاة بكل ما عداها. لأن نظرته هو كانت مختلفة، وكان هو النقيض الحيّ لأمثال ذاك الرجل في القصة ممن عاشوا على هامش الحياة.

فلو سألنا رئيف الأسئلة ذاتها لأجابنا بالإيجاب عنها جميعاً أو عن معظمها. رئيف خوري كان يحب الأرض والزراعة وكان يعطيها من وقته وجهده حتى نهاية حياته. كان يكدّ عقله حتى الإرهاق ويقرأ كتب العلم وينظم الشعر وينشئ الأبحاث، حتى وصفه الكثيرون بالأديب الموسوعي.

كما سهر على تربية أطفاله على قدر ما سمحت له حياته القصيرة معهم، وطالما قام بلفتة طيبة ومحبة تجاه أطفال التقاهم وعرفهم، كما عني بأمر أشخاص عايشهم واستشف أنهم بحاجة إلى عناية واهتمام فأولاهم اهتمامه وعنايته، وطالما حدثني كثر عن إنسانيته وعاطفته الصادقة ومعاملته الكريمة.

صحيح أن رئيف خوري لم يعش سوى نصف المدة التي سعى إليها ذلك الرجل في القصة. ولعل مرد ذلك نظرته إلى الحياة وطريقة ممارسته لها، لكنه عاش حياة حافلة غنية كثيفة ومليئة بنشاط يستنفد مئة عام أو أكثر.

فهل نحن يا ترى محقّون في الاحتفال بالذكرى المئوية لميلاده؟

وتكريماً وتقديراً وحباً لرئيف خوري أقامت بلدية نابَيْه وأهالي البلدة نصباً تذكارياً له بهذه المناسبة.

العدد 1104 - 24/4/2024