هل الرأسمالية مهدّدة فعلاً.. بالانهيار؟! (3)
هل تحقق النجاح للولايات المتحدة في فرض جدول أعمالها؟! هل استطاعت إعاقة التطور باتجاه النظام العالمي متعدد الأقطاب؟ وهل استطاعت استيعاب الآثار الكارثية للأزمة المالية والاقتصادية على نحو نهائي؟ هل أصبح بالإمكان القول إن الرأسمالية قد انتصرت، بكل ما تعنيه كلمة انتصارات من معنى؟
لقد كانت الأزمة الراهنة للرأسمالية، معبرة تماماً عن الخلل في هيكلية النظام وطبيعته، ويدرك (سدَنة) النظام هذه الحقيقة، لهذا نجد أن الولايات المتحدة في الوقت الذي تبتعد فيه عن المعالجة الجذرية للأزمة، تتجه إلى تحميل الآخرين وزر أعمالها، فتلقي بعبء الأزمة على الآخرين، ومن هنا جاءت الدعوة إلى اجتماع ما يسمى بـ(مجموعة العشرين) في واشنطن، وانتهت القمة إلى رفض فكرة سلطة عليا تضبط النظام المالي الدولي، معتبرة أن ضبط السوق مسألة وطنية، وقد حذر الرئيس الأمريكي وقت ذاك (بوش الابن) المجتمعين ودعاهم إلى عدم المساس بنظام اقتصاد السوق، وانتهاك (السيادة) الاقتصادية للدول، وعدم العودة إلى نظام الحمائية، مما يعني إبقاء الأزمة مفتوحة، دون أفق علمي يُخرج الاقتصاد العالمي من مرحلة لا تزال في بدايتها.
وإن كان الشعور بالأخطار بدأ يتصاعد على وقع الأزمة، وأخذت المناداة بضرورة التصدي للأزمة تتصاعد، وكان من أهم الاهتمامات ما شهدته باريس من خلال المؤتمر الاقتصادي الذي عقد فيها أوائل عام ،2009 فقد حضر هذا المؤتمر الرئيس الفرنسي حين ذاك (ساركوزي) والمستشارة الألمانية (ميركل) ورئيس الوزراء البريطاني (بلير) إضافة إلى رؤساء الجمهوريات الإفريقية وبعض الخبراء والمستشارين والمفكرين الاقتصاديين الاستراتيجيين، وعقد المؤتمر تحت شعار (عالم جديد- رأسمالية جديدة).
وتعود أهمية هذا المؤتمر إلى أنه عقد بعد أشهر قليلة من الأزمة، التي هيمنت على أعماله، وفي هذا المؤتمر أعلن ساركوزي أن أحد أهداف (الرأسمالية الجديدة) هو إقامة (عالم جديد) أي اقتصاد سوق اجتماعي جديد ذي أبعاد عالمية، وإن مهمة الرأسمالية الجديدة تخطّي الأزمة الراهنة وإدراك مخاطر العولمة، لكن أهم ما أسفر عنه هذا المؤتمر هو العودة إلى الدولة، بحيث تؤدي دورها في حماية المؤسسات الاقتصادية والمالية وتقويتها، بمعنى حماية مصالح قطاع الأعمال في مواجهة متطلبات باقي الشعب، ومعالجة الاختلالات الهيكلية في النظام الرأسمالي.
ورغم أن المؤتمر كان يهدف إلى حماية الرأسمالية، إلا أنه وجّه انتقادات شديدة للولايات المتحدة وإن لم يقدّم صورة واضحة ومتميزة عن الرأسمالية الجديدة والملامح المميزة لها، ولم يحاول هذا المؤتمر (شأنه شأن باقي الدول الصناعية المتقدمة وقادتها ومفكريها) الاقتراب من كشف أزمة الرأسمالية في صورتها الراهنة، لكن أهميته في أنه كشف ما وصلت إليه الرأسمالية الراهنة من توحّش واختلالات، حتى أن بعض الحضور طرح بديلاً عن ذلك تمثل في إعادة (الرأسمالية الاجتماعية) بهدف تجاوز مرحلة الرأسمالية الصناعية، ولكن هل يكفي هذا؟
ثم ما الذي يُنتظر أن يقدّمه اجتماع كهذا، يضم رؤساء دول ومفكرين واقتصاديين يدينون بالولاء للرأسمالية نفسها، وإن حاولوا كشف توحشها في محاولة لتجميلها؟ لقد كانت الولايات المتحدة بروحها وفلسفتها وألاعيبها تحوم فوق الرؤوس وتحدّد مسارات ما يمكن أن يخرج من مقررات وتوصيات. لقد كان السؤال يلح على الساسة والمفكرين السياسيين والاقتصاديين دائماً وبإلحاح بعد كل أزمة: ماذا عن مستقبل الرأسمالية؟
وبعد..
كما قلت فإن أزمات النظام الرأسمالي والرأسمالية ذاتها مستمرة، منذ نشأة هذا النظام، وقد سبق للاقتصادي البارز (شومبيز) إن تساءل في كتابه الشهير (الرأسمالية- الاشتراكية والديمقراطية) عام 1942: هل يمكن للرأسمالية البقاء؟
وقد أجاب على نحو قاطع: لا.. لا أعتقد أنه يمكن ذلك، إلا أنه لا يجد زوال الرأسمالية لأسباب اقتصادية، لكنه يرى أن أسباب زوال الرأسمالية يكمن في ثقافتها التي يراها عامل هدم.
ولعل ما نشهده في هذه الأيام من تداعيات للثقافة الإمبريالية التي بدأت تثير أخطر النزعات الإنسانية، وتمعن في تجاهل الآثار الاجتماعية الكارثية التي تنتج عن ممارستها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والعسكرية في جميع أنحاء العالم، وتتمظهر هذه النتائج على نحو صارخ في العمل الحثيث لـ(تسليع) الإنسان والعمل، وتعظيم السعي نحو تحقيق الربح، والترويج لمجتمع الاستهلاك وتشويه الإنتاج والعمل المنتج، وفي حالات النزوح والتشرد والجوع والمرض وغض النظر عن الآثار البيئية التي تسببها سياساتها الصناعية وعمليات تلوث البيئة والجفاف وعمليات المتاجرة بالإنسان وأعضائه وإهانة إنسانيته المعبر عنها في جحافل المجاعات في مناطق عديدة من العالم، وغرق الآلاف من الهاربين من ويلات الحرب والجوع،
ولعل المشاهد التي بدأت تفرض نفسها على الساحة الثقافية تعبيراً عن نتائج الثقافة العنصرية والأحادية الجانب للإمبريالية هي ما عناه (شومبيتر) عندما قال بأن زوال الرأسمالية سيكون لأسباب ثقافية، تلك الثقافة التي تبث روح الكراهية ومعاداة الآخر، وتعظّم من شأن المنافسة القاتلة، وتحطّ من شأن الوفاق والعيش المشترك، تلك الثقافة التي احتضنت وشجعت ثقافة التكفير والإرهاب، على أمل استخدامها لتحقيق أهداف وظيفية لخدمة أغراضها وسياساتها، دون أن تتوقع أنها بذلك قد أطلقت المارد الذي يسعى لتحطيم كل من يعترض سبيله مستخدماً في ذلك أفتك الوسائل وأشنع الأساليب اللاإنسانية، وإلى جانب ذلك استخدام الفكر الإرهابي التكفيري بمراجعه ومرجعياته.
وكان المفكر الأمريكي اليساري (هيلبرونو) قد تعرض لفشل النظام الرأسمالي، وبحث فيما يتوقعه لرأسمالية القرن الحادي والعشرين في كتاب صدر بذلك العنوان عام ،1965 وصدرت ترجمته عن الأهرام في القاهرة مسلّطاً الضوء على أبرز أوجه الفشل في النظام الرأسمالي على النحو التالي:
1- تشبّع الطلب وتدهور القوة العاملة، اللذان يشكلان أكبر صعوبتين من مفهوم (آدم سميث).
2- تناقضات الرأسمالية، التي أبرزها (كارل ماركس).
3- العجز في الوصول إلى العمالة الكاملة الذي أبرزه (كينز).
4- التآكل الثقافي في السيناريو الذي قدمه (شومبيتر).
وقد تعددت قراءات المفكرين الاقتصاديين من داخل الصندوق الليبرالي، وانصبت آراء العديد من المفكرين على بيان فشل النظام الرأسمالي، ولكن أغلبها كان يركز على المساوئ والآثار الكارثية للنظام، وعلى الحالة الاجتماعية، دون أن يصل إلى حد ضرورة اقتلاع النظام ذاته، بل كانت النصائح تنصبّ في غالبيتها على تغيير السياسات مع المحافظة على هيكل النظام الرأسمالي.
ومن الدراسات والآراء القيمة التي جاءت من داخل النظام، دراسات وأفكار (جوزيف سيتجلز) الاقتصادي الأسترالي المعروف الذي حاز على جائزة نوبل للاقتصاد عام 2001 والذي كان كبير المستشارين في البيت الأبيض في عهد كلينتون، ونائباً لرئيس البنك الدولي قبل ذلك.