القرية المهجورة تل جمعة

كانت قرية تل جمعة ممتدة على ضفاف نهر الخابور، وكانت في السابق تعج بالحركة والنشاط والحيوية، وهي أنشط قرى الخابور وأكبرها عدداً، ومضرب مثل لتلك القرى.. فأخذت الصدارة في كثرة المثقفين والسياسيين والعاملين في وظائف الدولة والمزارعين، وكانت تملك ثروة هائلة من البساتين وحقول القطن والقمح والشعير، ولعبت دوراً كبيراً في تغذية سوق المنطقة من إنتاجها.. لهذا أثبت أهلها أنهم أخذوا الصدارة في العمل والصبر والاجتهاد.

ولكن شيئاً فشيئاً بدأت فكرة الهجرة تنتشر في عقول الشباب، فقد هاجر بضعة منهم واستقروا في بلاد المهجر وساعدوا أهلهم، وانعكست الأمور نحو البناء والتطور العمراني وفتح المشاريع الزراعية والتجارية إيجاباً على الوضع الاجتماعي والاقتصادي، واستقرت الأمور لدى الكثيرين منهم.

وفجأة بدأت المشاكل داخل الوطن نتيجة تدخل خارجي وإقليمي وعربي، من أجل ضرب ذلك الأمان والاستقرار الذي لم يكن موجوداً في أي بلد من بلدان العالم، وهنا استغل الطابور الخامس الموجود في قريتنا بدء تلك المشاكل، وبدأ يلعب لعبته القذرة، فحث الناس للهجرة خوفاً من القادم، وبدأ الناس يبيعون ممتلكاتهم وما بنته أيديهم هذه السنين الطويلة من دون تفكير، لأنهم اعتبروا هذا الطريق هو الأصح من أجل إنقاذهم مما هم فيه، ولكن النهاية كانت وخيمة.. تحولت تلك القرية التي كانت تعج بالحركة والنشاط والحيوية إلى قرية أشباح، لم يبق منها إلى بعض الذين لا يملكون المقدرة على الحركة والهجرة، ومن بقي كان مقتنع تماماً رغم الظروف القاسية والصعبة علينا أن نصمد في قريتنا التي تعبنا على بنائها لبنة لبنة كل هذه السنين الطويلة.

ولكن في ليلة 23/2/2015 كان أصعب يوم علينا عندما دخلت فجأة الفصائل التكفيرية المسلحة من داعش وغيرها إلى المنطقة، هجّرونا قسراً هم وأصحاب المصالح في المنطقة، وهنا بدأت فكرة الطابور الخامس من جديد بتهجير من كان بوده الصمود ومتابعة العمل في الحياة، ولكن من بقي هذه المرة كان ينتظر سفينة السفر إلى أين.. المهم السفر.. وباستخدام أقسى الطرق والأساليب حتى إن كلفت حياتهم، وهنا باتت شوارع تلك القرية الجميلة خالية من الناس، تبكي ثم تبكي على نفسها وعلى حالتها المزرية ولا يوجد من يواسي من.. ومن ينقذ من.. ومن يدفن من.. ومن يدافع عن ماذا؟ ولم يبق إلا القليل من الشباب والبنين وهم كذلك ينتظرون سفينة السفر، فكيف لا نبكي ونذرف الدموع على ما بنته هذه القرية طوال هذه السنين يذهب خلال لحظة قصيرة أدراج الرياح؟

أنا واحد من الذين تشبثوا بترابك الطاهر، ولكنني أشعر بأنني غريب عنك.. يا قريتي الجميلة!

العدد 1105 - 01/5/2024