المصالحة الوطنية.. منطق فضفاض وأساسي للحل في سورية

 أصبح الصراع الدولي القائم على سورية شديد الوضوح، وانتظار الأطراف الدولية لحل الأزمة السورية يفتح بالضرورة على وصاية دولية بأشكال مختلفة قد تكون جديدة كلياً، واحتمالات غير مضمونة في حماية السلم الأهلي. ارتباط حل المشاكل الداخلية بالخارج، هو رهان معقد وغالباً خاسر، فللأطراف الدولية الفاعلة خيارات خطرة، إذاً سيكون من الخطأ، بل بمنزلة الجريمة بالنسبة للنخب الوطنية، المتناقضة جذرياً مع الفاشية الإسلامية، انتظار حل الأزمة السورية من قبل الأطراف الدولية.

ورغم أن مفاوضات جنيف حول الحل السياسي في سورية مازالت قائمة، تبقى احتمالات الصراع على سورية غير محسومة ومفتوحة على تصعيد جديد في أي لحظة، لكن أي صياغة وطنية لضبط هذه الاحتمالات وتهميشها لابد أن تمر عبر سردية واسعة لعمليات المصالحة الوطنية، إذ تشكل بنجاحها واحدة من الضمانات الأساسية للوحدة والنسيج الاجتماعيين.

لكن عملية المصالحة بحد ذاتها ليست حلاً نهائياً، إنها تشكيل أساسي، لقيام مشروع سياسي جديد في سورية، يعتمد معايير العلمانية في مواجهة الفاشية، والوطنية في مواجهة التبعية الإقليمية، والديمقراطية في مواجهة احتكار السلطة. المصالحات هي الضامن الأكثر واقعية لعدم الوصول إلى القاع الأكثر كارثية. طبعاً يجب هنا على الفعاليات المنبثقة عن عملية المصالحة الوطنية أن تكون متفقة على دور الدولة، والتمييز بينها وبين السلطة، وعلى حماية المؤسسات وتعزيز دورها. وهذا يمكن أن يتحقق عبر صيغة منبثقة عن سردية المصالحة الوطنية بحد ذاتها، عبر نشوء هيئات عمل وحوار بإدارة تشاركية تناقش القضايا الأكثر إلحاحاً بطريقة مختلفة عن مقاربات السلطة في حقبة ما قبل الأزمة، ومنطقها في احتكار القرار الشعبي ومطالب العدالة الأساسية للحوامل الاجتماعية المحلية.

لقد تبلور مفهور الحوار والتواصل في سورية على خلفية نجاح مصالحات تحققت في مناطق محلية مأزومة متفرقة. على سبيل المثال في العام الماضي، سبق الهدنة المُعلنة في مدينة برزة في دمشق تغطية إعلامية ورسمية واسعة من قبل الإعلام السوري، لدرجة أن رئيس الوزراء قد زارها مع وفد كبير مرافق. وقال معارضون من (تنسيقية) مدينة برزة إن استمرار هذه المصالحة يعود للأفضلية الجغرافية لهذه المدينة لصالح النظام، لكن أثبتت المجريات اللاحقة أنه ليس للجغرافيا هذا الدور الكبير، بقدر نية المجتمعات المحلية دخول عملية المصالحة الوطنية.

لكن هذه العملية ليست بهذه السهولة، ويبقى المثال الأكثر وضوحاً وقوة وإيلاماً مصالحات مخيم اليرموك المتكررة، إذ كلما جرى الاتفاق على هدنة أو مصالحة، انهارت على وقع خروقات الميليشيات الاسلامية المسلحة واندلعت المعارك، ودائماً الخاسر الأكبر هم السكان المدنيون المحاصرون بين النار والجوع. وفي مثال آخر خارج العاصمة، تبدو منطقة الوعر في حمص مثلاً واقعة تحت تناقضات الميليشيات المسلحة بين قبول بعضهم بتسوية مع الحكومة السورية، ورفض البعض الآخر لأي هدنة على أمل أن يصل الدعم من ميليشيات مسلحة أخرى، بالأخص (تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام) من الريفين الشرقي والشمالي الشرقي لمدينة حمص، حيث لهذا التنظيم حضور قوي في هذه المنطقة خاصة في بلدة القريتين. إن قيام قاعدة واسعة للمصالحة، ستكون قادرة على تضييق الفضاء الُمشاع للعنف ومحاصرته، ثقافياً ودعاوياً، وكذلك ستكون قادرة على توفير الأرضية الشعبية لتضييق الخناق على نشاط الميليشيات الإسلامية المسلحة لهزيمتها لاحقاً في الميدان، وستفرض بطريقة أو بأخرى على المجتمع الدولي القبول بالحل السياسي أو على الأقل إعطائه أهمية اكبر مستقبلاً.

المصالحات التي تجري حالياً في سورية هي آلية عمل تتبناها كتلة شعبية واجتماعية واسعة، مدعومة بكتلة واسعة من الفعاليات المحلية والقوى السياسية، تطورت عن مجموعة من الأسباب يصب معظمها في قناعات أن الحرب في سورية أصبحت عبثية  تماماً، وأن الفاشية الإسلامية هي خطر وجودي وحقيقي على النسيج الاجتماعي السوري. وهي أيضاً نتيجة مراجعة ذاتية لبعض الفعاليات المحلية التي تبنت الخطاب العنفي سابقاً. في المضمون، المصالحات التي تجري حالياً في مناطق عدة من سورية، لا تقوم على أساس فكري أو إيديولوجي أو اجتماعي محدد، بفئة اجتماعية أو حزب أو جهة اعتبارية معينة، بل هي أقرب ما تكون إلى صيغة انعكاسية لواقع مجتمعي عصف به العنف حتى الذروة، وبالتالي تطلب منه عملية أو بالأحرى صياغة وطنية وإنسانية وتاريخية فضفاضة من الأسس والمفاهيم للانتقال إلى حالة من السلم، تؤسس لاحقاً أرضية صلبة للنخب الثقافية والسياسية لحل التحديات الأساسية المطروحة، عبر صيغ دستورية وقانونية وبرامجية أكثر دقة.

العدد 1105 - 01/5/2024