سياسات اقتصادية مضطربة.. والمخرج سياسي

 أود بداية تقديم الشكر لهيئة تحرير جريدة (قاسيون) لتنظيمها هذه الندوة، ودعوتي للمساهمة في أعمالها، ففي خضم البحث عن مخرج سلمي سياسي لأزمتنا المأساوية، أهملنا الجانب الاقتصادي والاجتماعي الذي كان أحد الأسباب.. وسيكون حسب اعتقادي أحد أهم عوامل الخروج من هذه الأزمة.

لقد كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في صلب المسببات التي أدت إلى انفجار الأزمة السورية، فقد تراكم غضب جماهير الشعب السوري الفقيرة والمتوسطة بعد سياسة الإفقار التي نفذتها الحكومات وطواقمها الاقتصادية في العقد الماضي. لن نسهب في إحصاء الخسائر المادية التي تسببت بها الأزمة، لكن نحو 300 مليار دولار.. ونحو 15 عاماً من الإعمار دون الوقوع في شرك الصناديق الدولية، قد يعيدان الاقتصاد السوري إلى مرحلة الإقلاع.

كتبنا.. وكتب غيرنا أيضاً عن حزمة الأسباب التي مهدت لاندلاع الأزمة، وكيف استغلت الإمبريالية الأمريكية وحلفاؤها تحركات الجماهير السلمية، وسلطت على سورية عتاة الإرهابيين (القاعديين)، بهدف إجهاض أي تغيير سلمي باتجاه الديمقراطية. لكننا سنتطرق هنا إلى عاملين اثنين كانا الأبرز في مراكمة غضب الفئات الفقيرة والمتوسطة وجميع الطامحين إلى مستقبل سوري ديمقراطي.. معادٍ للإمبريالية الأمريكية والصهيونية.

1ـ فعلت السياسات الاقتصادية النيوليبرالية فعلها في العقد الماضي، فقد أثارت غضب الجماهير الشعبية التي شعرت بعد معاناتها المعيشية أن الدولة تراجعت عن دعمها للفئات الفقيرة والمتوسطة، وانحازت إلى الفئات الثرية، المالكة، المستثمرة، وللأغنياء (الجدد)، في الوقت الذي كانت فيه جماهيرنا الشعبية تنتظر تحقيق وعود الخطط التنموية، للخلاص من الفقر والبطالة والتخلف.

2ـ طموح الشعب السوري إلى التعددية والديمقراطية، وهو المطلب الذي عبّرت عنه أيضاً قوى سياسية وطنية قبل الأزمة، وخلالها. فاستمرار وجود حزب واحد على رأس الدولة والمجتمع بموجب تشريعات سنّت منذ عقود، كان عاملاً في استبعاد الآخر الوطني، وغياب التداول السلمي للسلطة.

الاقتصاد السوري قبيل الأزمة… لمحات

لقد عانت الصناعة السورية انفتاحاً متسرعاً قبل تمكّنها من استيعاب متطلبات (الاندماج) في الاقتصاد الدولي المعولم، وتطوير هياكلها الإنتاجية والإدارية والتسويقية، فغدت الأسواق السورية مرتعاً للسلع الآتية من كل حدب وصوب، وخاصة السلع التركية والخليجية والصينية. وسعى مهندسو الاقتصاد آنذاك إلى الاندماج في التجمعات الإقليمية والدولية، رغم تواضع قدرة الصناعة السورية بقطاعيها العام والخاص على مجاراة هذا الانفتاح، فتراجعت نسبة مساهمة الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي من 11% في عام 2002 إلى 7% في عام 2010. وعانى الصناعيون منافسة غير عادلة من السلع المدعومة الواردة من منطقة التجارة الحرة العربية، وأحجمت المصارف الخاصة والحكومية عن تحفيز الصناعيين، إذ كان التشجيع منصباً على المشاريع العقارية والسياحية، وتمويل صفقات كبار التجار.

أما الزراعة السورية التي شهدت في تسعينيات القرن الماضي اهتماماً من الحكومات لتحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي، فتراجعت مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي من 24% في بداية الألفية الجديدة إلى 14% في عام ،2010 بعد عدة سنوات شحيحة وممارسات حكومية همشت القطاع الزراعي سعياً وراء تشجيع استيراد الغذاء من الخارج. فقد حررت أسعار السماد والعلف ومستلزمات الإنتاج الزراعي، ورفعت الحكومات المتعاقبة أسعار المازوت اللازم لعملية ري المحاصيل، وماطلت في تنفيذ مشاريع تطوير المنطقة الشرقية الأكثر تخلفاً، والتي تعد مستودع المحاصيل الاستراتيجية، ما أدى إلى هجرة العمال الزراعيين.

 الحصار والإرهاب وتراجع الإيرادات

استمرت تداعيات الحصار الاقتصادي الجائر الذي فرضته الولايات والمتحدة وشركاؤها على اقتصادنا الوطني منذ بداية الأزمة،، مما صعّب على الحكومة والقطاع الخاص تدبير مستلزمات الإنتاج.. والمواد الأساسية لحياة المواطنين السوريين، وفي الحالات التي أمكن تأمين بعض هذه المستلزمات والمواد، كانت أسعارها مرتفعة جداً قياساً إلى تراجع قيمة الليرة أمام القطع الأجنبي، مما أثر سلباً على الحياة المعيشية للمواطنين، وعلى الجهود التي تبذلها القطاعات الصناعية العامة والخاصة بهدف العودة إلى تدوير عجلات الإنتاج، كذلك لم يتوقف التخريب الإرهابي الممنهج للبنية التحتية في عديد المناطق السورية، وكان قطاعا الكهرباء والنفط وهما القطاعان الأكثر تأثيراً في باقي القطاعات الصناعية والزراعية المنتجة، هدفاً لمزيد من التخريب والنهب.

إن تراجع مساهمة قطاعي الصناعة والزراعة في العملية الاقتصادية يعني ركوداً في بقية القطاعات المولدة للدخل والأرباح، وتراجعاً في تأمين فرص عمل جديدة، ونقصاً في تأمين عرض البضائع والسلع في الأسواق، مما أدى إلى عجز الصناعيين والمزارعين الدائنين للمصارف عن الوفاء بالتزاماتهم، وكل ذلك أدى في النهاية إلى تراجع إيرادات الخزينة العامة التي شهدت انخفاضاً واضحاً، فتراجعت نسبة التحصيل الضريبي بنحو 65%، وارتفع عجز الموازنة عدّة أضعاف عما كان عليه في عام 2010.

سياسات حكومية (غير شعبية)

ورغم الخطط والوعود الواردة في وثائق الحكومة وهما البيانات الوزارية ومشاريع موازنة الدولة، ورغم بيانات وتصريحات المسؤولين الحكوميين المغرقة في تبسيط الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.. جاءت القرارات (غير الشعبية) برفع أسعار المشتقات النفطية مرات عدة، وزيادة الرسوم والضرائب المباشرة بنسبة 100%، لتقضي على أي أمل بتحقيق الوعود.. ولتطرح ألف علامة استفهام عن جوهر السياسات الاقتصادية للحكومة خلال الأزمة.

الوثائق سكتت أيضاً عن القدرة الشرائية للمواطن السوري الذي اكتوى بنيران الارتفاعات المستمرة لأسعار جميع المواد والسلع، والتي تجاوزت وسطياً نحو 700%، بسبب الحصار الجائر وتضرر القطاعات المنتجة وارتفاع سعر القطع الأجنبي الذي تجاوز 900%، مما أدى إلى ضعف الطلب الداخلي من جهة، وازدياد معاناة الفئات الفقيرة والمتوسطة إلى درجة قاربت المجاعة. صحيح أن حل المعضلات الاقتصادية الناتجة عن الأزمة يقوم على قاعدة (السياسي)، لكننا أكدنا مراراً أنه لا يجوز تحميل الفئات الفقيرة والمتوسطة وحدها عبء متطلبات الصمود السوري، خاصة بعد مصطلح (عقلنة الدعم) الوارد فيهما والذي ارتبط دائماً برفع الأسعار وتجميد الأجور بدلاً من توجيه الدعم إلى مستحقيه الحقيقيين وهم الفئات الفقيرة والمتوسطة. لقد انضم نحو 5 ملايين مواطن إلى خانة الفقر، منهم نحو 3 ملايين مواطن في حالة أقرب إلى الفقر المدقع.

أدرك المواطن السوري بحاسته التي يحسد عليها، أن الحكومات تحاول الطيران، لكنها لا تمتلك الأجنحة، أي سلطة استثنائية واسعة، وأدوات مالية واقتصادية تمتلكها أي حكومة تتصدى لأزمة عميقة، كالتي تشهدها بلادنا. فغابت الحلول الناجعة.. واقتصر دور الحكومة على أمرين اثنين:

الأول- معالجة الملفات (اليومية) كمحاولتها إيجاد المخارج من طوق الحصار الاقتصادي، وتأمين استمرار تدفق المواد الأساسية للغذاء واستمرار عمل القطاعات المنتجة، وهنا ظهر جلياً تخبط الحكومة في مسائل التمويل.. والقطع.. والمخالفات السكنية.. وتوزيع المازوت والغاز، وارتفاع الأسعار.

الثاني- متابعة انتهاج السياسات الاقتصادية السابقة.. الجائرة التي أضرت بالاقتصاد الوطني، وأفقرت الجماهير الشعبية، ووسعت الفوارق الطبقية، في وقت كان من الأجدى فيه أن نعلن اقتصاد الحرب والمجابهة، ونعلق تنفيذ جميع التشريعات التي تعيق صمود الاقتصاد السوري بقيادة الحكومة.. لا بقيادة السوق وأسياده.. وأثرياء الحرب (المعتاشين) من استمرارها.. والذين أكلوا الأخضر واليابس.

غد سورية الاقتصادي

يستأثر الاقتصاد السوري في مرحلة ما بعد الأزمة باهتمام أوساط سورية في الداخل والخارج، وهو أمر متوقع ومبرر ما دام الجميع يبحثون في غد سورية، كلّ حسب موقعه وانتماءاته الفكرية والسياسية، والمكاسب التي يتوقعها بعد توافق السوريين على مستقبلهم السياسي. إن مستقبل السياسات الاقتصادية في سورية يرتبط بنجاح الجهود السياسية لحل الأزمة من جهة، وبالوزن النوعي للطبقات والفئات الاجتماعية الذي كان سائداً قبيل الأزمة، والتغييرات التي طرأت عليه خلالها، وبعض النخب والفئات البازغة التي تتهيأ مدعمة بتحالفات إقليمية ودولية لقطف ثمار الحل السياسي، وتوجيه الاقتصاد السوري باتجاهات تخدم مصالحها من جهة أخرى.

ولأسباب نعتقد أنها ترتبط بالمخطط الذي رسمته الإمبريالية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط، أخذ الاهتمام الدولي باقتصاد سورية (ما بعد الأزمة) يظهر كعامل دولي ضاغط نحو سياسات اقتصادية نيوليبرالية، يجري تسويقها كحل وحيد لإعادة الإعمار. وهذا الاهتمام لا ينحصر فقط في الأجندة التي أعدّتها (الإسكوا)، بل في العديد من الدراسات والأبحاث والندوات التي تُنظم في الدول الأوربية لرسم خريطة طريق لمستقبل سورية الاقتصادي. لن نتطرق هنا إلى تقويم هذه الدراسات والأجندات التي تعدّ في الخارج، بل سنركّز في بحثنا على ما يريده الشعب السوري، انطلاقاً من أوجاعه وهمومه قبيل الأزمة وخلالها. فهذا حسب اعتقادنا ما يوجب على المتحاورين السوريين الذين يبحثون سبل إنهاء الأزمة أخذه في الحسبان، قبل أن يضعوا خاتمهم على وثيقة (سورية المتجددة). ونكرر ما ذكرناه في مقالة سابقة نشرت في (الأخبار) اللبنانية، بضرورة تجنب المتحاورين لخطرين اثنين:

الأول: اختزال الأزمة السورية بمشهدها السياسي، والتغطية على الأسباب الاقتصادية والاجتماعية، ما يؤدي إلى ترك جوهر النهج الاقتصادي في المرحلة القادمة رهينة لتسويات سياسية، قد تأخذه بعيداً عن تحقيق مطالب جماهير الشعب السوري.

الثاني: تبني سياسات اقتصادية انفتاحية، ريعية، نخبوية بالاستناد إلى آليات اقتصاد السوق الحر، ومنسجمة مع النماذج التي روجت لها المؤسسات الدولية، وخاصة برامج التثبيت الهيكلي والتكييف الاقتصادي، أو ما اصطلح على تسميته (توافق واشنطن) بهدف (تسهيل إعادة الإعمار واختصار الزمن)، ويجري التسويق لها من خلال أجندة إعادة إعمار سورية بهدف الحصول على المنح والقروض والمساعدات من الدول الرأسمالية والخليجية، والمؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية، مقابل تكريس اقتصاد السوق الحر، والدخول في قوائم أصدقاء المؤسسات الدولية التابعة للإمبريالية العالمية. نقول هذا ونحن ندرك الهوة الشاسعة بين أطروحات ومآرب الأطراف السياسية المشاركة في الحوار السوري في جنيف، لكننا غير متأكدين تماماً من تباين برامجهم الاقتصادية لمرحلة (ما بعد الأزمة)..!!

 وكما تسعى جماهير الشعب السوري إلى التغيير السلمي باتجاه نظام سياسي ديموقراطي علماني، فإنها تطالب في الوقت ذاته بنهج اقتصادي يحقق لها متطلبات الحياة الكريمة، في ظل تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تعتمد على الذات، وتقودها الدولة بمشاركة القطاع الخاص المنتج والرساميل الوطنية، وجميع منظمات المجتمع المدني في البلاد. ونرى التركيز بداية على المهمات الآتية:

1 – تعديل التشريعات والقوانين التي سنّت في العقد الماضي والتي تحدّ من تدخل الدولة كطرف من أطراف العملية الاقتصادية.

2 – وضع خطة حكومية لإعادة الإعمار بالاعتماد على الذات، وعلى مساعدات الدول الصديقة، بالاستناد إلى خبرات ومقترحات خبراء الاقتصاد السوري الوطنيين، بعيداً عن فرض الشروط و(النصائح). والبدء بمشاريع القطاعات المنتجة.. لا السياحية والعقارية.

3 – سنّ القوانين العاجلة للقضاء على الفساد في جميع المفاصل الاقتصادية والإدارية.

4 – إشراك الأحزاب الوطنية ومنظمات المجتمع المدني في اقتراح خطط التنمية الشاملة، وفي تنفيذها.

5 – إلغاء التشريعات التي تحد من حقوق المرأة السورية، ومساواتها بالرجل، وإشراك الشباب السوري في اقتراح الخطط التنموية الضرورية لتحقيق مطالبهم.

6- دعم صناعتنا الوطنية وتحديثها، وتقديم ما يلزم من تسهيلات كي تصبح هذه الصناعة فعلاً لا قولاً قاطرة التنمية في البلاد، وإصلاح القطاع العام الصناعي بتحديث أنظمته وتعزيز قدراته الإنتاجية وتحديث وتجديد وسائل إنتاجه.

7 – قيام الحكومة بالإشراف على إعادة توزيع الدخل الوطني بين الفئات الاجتماعية، عبر شبكة واسعة من الخدمات التي تستهدف الفئات الأقل دخلاً.

8 – ضمان الأمن الغذائي في البلاد عن طريق الدعم الدائم لقطاع الزراعة… ومنح التسهيلات لمشاركة القطاع الخاص في إقامة المشاريع الصناعية – الزراعية في المحافظات الشرقية، ودعم الإنتاج والإنتاجية والقضاء على ثقافة الاستهلاك، والحد من الاستغلال والمستغلين والبيروقراطية والبيروقراطيين، وإعلاء شأن العمل النزيه والمنتج.

9 – الحفاظ على ملكية الدولة وإدارتها للمرافق الحيوية والاستراتيجية.

10 – الاهتمام بالتعليم ودعم البحث العلمي بالإمكانات البشرية والمادية.

11 – العمل على استعادة الأموال المنهوبة من الدولة والقطاع العام.

نريد لغدنا الديموقراطي، الذي نعمل لأجله، تلبية المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية للفئات الفقيرة والمتوسطة، وعلى رأسها الطبقة العاملة، وصغار الفلاحين، وجمهور الحرفيين والمثقفين والشباب والنساء، باعتبارها تمثل أكثرية الشعب السوري، وأي غد آخر يعني – حسب اعتقادنا – عودة من نافذة الاقتصاد لمن عجز عن أخذ سورية من بوابة التدخل العسكري.

بشار المنيّر

عضو جمعية العلوم الاقتصادية

(*) مداخلة قُدمت إلى ندوة اقتصادية حول (مناقشة السياسة الاقتصادية خلال سنوات الأزمة)، نظمتها هيئة تحرير صحيفة (قاسيون) في شهر أيار 2016.

العدد 1105 - 01/5/2024