ثورة أكتوبر… تجدّد وتجذّر مستمران!

مخطئٌ كل من يعتقد أن انتكاسة ثورة أكتوبر هي فشلٌ للاشتراكية في إدارة العالم، فالانتكاسة هي مدعاة للإصلاح الذاتي وإعادة البناء والتجدد؛ فرصد مواضع الخلل والعيوب والمعوقات في سيرورة المجتمع، يساعد على استلهام الخطط والإجراءات التي يجب اتخاذها للقضاء على الخلل والعيوب والمعوقات نفسها، ولا يوجد، في الواقع آلية أخرى لضبط حركة المجتمع.

لا يمكن للفكر الذي يؤمن بالإنسان أن يسقط أبداً، كما يرغب ويحلم منظرو التيار الرأسمالي تسمية انتكاسة ثورة أكتوبر، فـ (الانتصار الموهوم للرأسمالية) في أوائل التسعينيات أصابهم بزهوٍ أعمى بصائرهم وأبصارهم، فباتوا ينظرون إلى الأشياء بعين واحدة، وهذا يعكس ضيقاً في الأفق وقصوراً في الرؤية، فديمقراطيتهم المزعومة تقتات من الحروب والصراعات، التي يدأبون في إشعالها في كل مكان.

لقد انطلقت ثورة أكتوبر من فكرٍ عميقٍ ورؤيةٍ بعيدة المدى، لذلك جاءت نتائجها عالمية وشاملة؛ فلقد أحدثت تغييرات اقتصادية وسياسية واجتماعية على مستوى العالم، وبفضلها استطاعت شعوب العالم المضطهدة نيل حريتها واستقلالها، هذا إضافة إلى الانتصار الكبير الذي حققه الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية، الذي لم يؤدِّ فقط إلى القضاء على النازية والفاشية فحسب، بل ساعد على التأسيس لنظام عالمي جديد قادر على تحقيق العدالة والمساواة بين شعوب العالم، وحوّل منظمة الأمم المتحدة إلى منصة صالحة لحل المشاكل الدولية.

وبسبب فقدان التوازن في السياسة الدولية، الذي أحدثه انهيار الاتحاد السوفياتي، استفرد الغرب الاستعماري بالقرار السياسي الدولي، الأمر الذي أدّى إلى تصاعد التوتر وخلق بؤر توتر جديدة في العديد من مناطق العالم، كما نال القضايا العربية النصيبُ الأكبر من الاستخفاف والإهمال والتراجع. علاوة على ذلك، انتشرت سياسة المعايير المزدوجة بشكل يدعو إلى الدهشة، الأمر الذي أدّى إلى التأسيس لشكلٍ جديدٍ من أشكال العنصرية، متبدل ومتقلب في الزمان والمكان، حسب إرادة أصحاب القرار في الغرب، ومصالحهم ومزاجهم.

وهكذا، أصبح التدخل في قضايا الدول الأخرى، والعبث في استقرارها، والنيل من حقوق شعوب العالم، وسيلةً ناجعة أمام قادة العالم الرأسمالي للهروب من مشاكلهم الداخلية.

وبناءً على ما سبق، أضحت إثارة الصراعات والأزمات (عملاً واستثماراً)، وتحولت الحروب من وسيلة للدفاع عن الأرض والأنفس والأوطان، تخلد بها الأمم أمجادها وبطولاتها وقصص وحكايات رجالها الشجعان، إلى وسيلة للتكسب والاسترزاق، حتى وصلت بهم الخسة والانحطاط إلى دعم قوى الإرهاب والظلام من أجل تحقيق مصالحهم، فأي سقوط بعد هذا السقوط الأخلاقي الكبير؟! وهل هناك ما يناقض حقوق الإنسان، التي صدّعوا رؤوسنا بالدعوة إليها، أكثر من هذا؟!

ننطلق نحن، المنظّرين والمدافعين عن التيار الاشتراكي، من مركزية الإنسان في هذا الكون، إيماناً منّا بتجانس المشاعر والعواطف والأخلاق الإنسانية، فجميع أفراد البشرية ينفرون من الظلم والاضطهاد والجهل، ويتعاطفون مع الحق ويميلون إلى العلم والخير والعدالة، وخير مثال على ذلك هو التعاطف الكبير مع العراق والمظاهرات الحاشدة التي خرجت في كل مكان تضامناً معه ضد الغزو الأمريكي في عام 2003.

كما ننطلق أيضاً، من الإيمان بشمولية هذه القيم وعالميتها وكونيتها الجذرية؛ فجميع علماء العالم، على سبيل المثال، يشهدون بالتقدم العلمي الكبير الذي حققه الاتحاد السوفيتي، وعلى القارئ الكريم ألا يُفاجأ إذا علم أن معظم علماء أوربا يتقنون اللغة الروسية، لكونها اللغة الأساسية في دول المعسكر الاشتراكي، للاستفادة من هذا النبع العلمي الثرّ.

وبغية الاستفادة من دروس الحقبة السوفيتية نرى أنه لا مندوحة من النظر إلى المجتمع البشري على مستويين؛ محلي وعالمي. إذا تشكل الاختلافات الفردية والمحلية والإقليمية الآليات الأساسية في حفظ التوازن الكلي والتجانس في المجتمع البشري، كما أن التقارب والتواصل بين المجموعات البشرية هو الوسيلة الأنجع في زيادة التجانس والانسجام في العالم.

لذلك يشكل النهج الرأسمالي، القائم على حل المشاكل الداخلية، بخلق الصراعات والأزمات وتوجيه الفوضى في المجتمعات الأخرى، خرقاً لهذا التوازن سيؤدي إلى الخلل في مجمل المنظومة القيمية للبشرية.

بناءً على ذلك، فإننا ننظر إلى السياسة الروسية الجديدة كشكلٍ من أشكال إعادة إنتاج النظام الاشتراكي على أسس أكثر متانةً ورسوخاً، إذ تجري المحافظة على الاختلافات المحلية بين الأفراد والجماعات والثقافات، دون المساس بخصوصية أي منها أو التدخل في شؤونها أو العبث في استقرارها.

ونحن نقرأ تصريح الرئيس ميدفيديف، في عام 2011، في تعليقه على الأزمة السورية، حين قال: إن طريقة حل الأزمة السورية ستحدد الشكل الذي سيكون عليه النظام العالمي الجديد، في هذا السياق.

لذلك تشكل العودة الروسية المظفرة إلى الساحة الدولية خطوةً جريئة وخلاقة، وبرز ذلك بوضوح في سياق معالجتها للأزمة السورية، أن ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي هما المرجعية القانونية الوحيدة في حل المشاكل السياسية الناشئة بين الدول.

بناءً على ذلك ستكون الأمم المتحدة المنصة الوحيدة لتحقيق القيم الأساسية التي حاولت ثورة أكتوبر تكريسها عبر نضالها الطويل؛ كالعدالة الاجتماعية، المساواة، التوزيع العادل للثروة، احترام حقوق الشعوب، القضاء على الاستغلال والفقر والتشرد والحرمان وغيرها.

ختاماً، لا يختلف انتصار ثورة أكتوبر، قبل مئة عام، عن انتصار روسيا السياسي على الساحة الدولية الآن، في مقاربتها للأزمات الإقليمية والدولية، وخاصة الأزمة السورية، فلقد ترك كلا الانتصارين آثاراً ونتائجَ بالغة الأهمية على العالم كله؛ إلا أن روسيا، في هذه المرة، عادت بحلة جديدة، خالية من أي إمكانية لوصمها بالإلحاد أو غيره، كما حدث في العهد السوفييتي، وهذا ما يبشر بأن أحلام وآمال ثورة أكتوبر 1917 باتت قريبة التحقيق.

العدد 1104 - 24/4/2024