(درع البيزو).. هذا ما حصل في المكسيك؟

في التاسعة من مساء 3/1/ 1995 وَدَع ميشيل كامديسو رئيس صندوق النقد الدولي أيام الهدوء والطمأنينة، وبدأ الفزع والاضطراب يأخذ منه كل مأخذ، لقد أعلنت الحكومة المكسيكية العزم على تخفيض قيمة عملتها الوطنية (البيزو)، وكان مقرراً أن تنخفض قيمته خمسة سنتات أمريكية أي 15% من قيمته الجارية، الأمر الذي سبب حالة من الذعر في (وول ستريت) وأسواق المال العالمية وصناديق الاستثمار التابعة لها، والسبب واضح جداً، لقد استثمرت هذه الصناديق ما يزيد على 50 مليار دولار في قروض وسندات حكومية مكسيكية بعد أن تمتعت المكسيك بسمعة موثوق بها، إذ أوفَتْ بكل الشروط التي فرضها صندوق النقد الدولي من أجل إصلاح اقتصادها والتحول باتجاه لبرلة العملية الاقتصادية وفتح الأسواق.. وتحرير التجارة.. وخصخصة قطاع الدولة.. وإلغاء الدعم الاجتماعي، لقد سادت حالة الذعر.. وانخفضت قيمة البيزو خلال ثلاثة أيام بنسبة 30% ، وبدأ المستثمرون المكسيكيون بسحب أرصدتهم ونقلها إلى  الخارج، وأصبحت ثروة المستثمرين الأجانب مهددة بفقدان جزء هام من قيمتها، واهتز ت البورصة، وبدا أن المكسيك ذاهبة إلى  أزمة اقتصادية كبرى ستأخذ معها كل الوعود التي قطعتها للشعب المكسيكي بنمو اقتصادي مرتفع.. وحياة أكثر استقراراً.

 لقد هددت الأزمة المشروع الحيوي للرئيس كلينتون وهو جلب الاستقرار للجار الجنوبي والتمتع بأسواقه الواسعة المستقرة، لذلك حشدت الحكومة الأمريكية إداراتها السياسية والاقتصادية، وممثلي الجهات المالية الدولية في حملة إنقاذ أطلقت عليها صحيفة الواشنطن بوست عملية درع البيزو، وأعلن الرئيس أن حكومته ستقف مع الجار المريض وستأخذ على عاتقها ضمان قروض بقيمة 40 مليار دولار،وبذلك لا خوف من عجز الحكومة المكسيكية عن تسديد ديونها للأجانب، لكن هذا التصريح الرئاسي لم يؤدِ إلى  انفراج في حدة الأزمة، إذ لا شيء يؤكد حصول الرئيس على موافقة الأغلبية الجمهورية في الكونغرس على قرار كهذا ، فراح سعر صرف العملة المكسيكية ينخفض من يوم إلى  آخر، ولم تعد قادرة على تسديد ما تستورده من سلع، وبدأت مشكلة الصناعة الأمريكية بالظهور لارتباط فرص العمل فيها بالتجارة مع المكسيك، وتوسعت دائرة الأزمة.. وبدأت تداعياتها تصل إلى  أسواق المال العالمية في 12 /1/ 1995 حين زاد الضغط على مجموعة من العملات الرئيسية في العالم بسبب بيع سندات الدين والأوراق المالية المكسيكية وشراء عملات عالمية بدلاً منها، ولم يبقَ للرئيس الأمريكي سوى استخدام صلاحياته والتصرف على مسؤوليته من مخصصات صندوق الطوارئ والبالغة 20 مليار دولار متاحة للرئيس لمواجهة الأزمات الطارئة، كذلك استطاع كامديسو الحصول على موافقة مديري صندوق النقد الدولي على منح المكسيك الحد الأعلى للقروض وهو 17.7 مليار دولار، لكن ذلك لن يجدي حتى الآن، إذ كان من الضروري تأمين 10 مليارات دولار إضافية، وهذا ما فعله (اندرو كروكيت) مدير بنك التسويات الدولية بموافقته على القرض المطلوب، وأعلن خبر مثير في الاجتماع السنوي لحكام الولايات المتحدة، لقد جرى بمساعدة صندوق النقد الدولي وبنك التسويات وحكومتنا، ودون موافقة الكونغرس.. تأمين قرض للجار تزيد قيمته عن 50 مليار دولار، وأن المكسيك ستسدد كل ما بذمتها من ديون. 

ماذا كانت الحصيلة في المكسيك على مدى عشر سنوات..؟ لقد انهارت الصناعة المكسيكية القائمة على التجميع والمواد الغذائية المخصصة للولايات المتحدة، وأفلس 15 ألف مشروع، وتراجعت القدرة الشرائية للعمال بمقدار الثلث، ومع تزايد ديون الحكومة، فقد ثلاثة ملايين مواطن عملهم، وأصيب الفلاحون بالخراب بعد أن ألغت الحكومة دعمها للسلع الأساسية كالذرة والفول، وانهارت أسعار البن، وأدى استياء الفلاحين إلى  ثورة عارمة خاضها الزاباتيون (نسبة للزعيم الأسطوري زاباتا) في منطقة (شياباس) لقد تحركت المجتمعات المحلية في جميع أنحاء المكسيك حول مطالب (شياباس)، وسـاهم الجميع في مقاومة طويلة الأمد لإصلاحات الحكومة الغارقة بديون المؤسسات المالية العالـمية، وساهم هذا التحرك في زعزعة الوضع الاقتصادي المهلهل أصلاً، وبدأ المستثمرون المحليون بتهريب أموالهم إلى  الخارج، وتبعهم المستثمرون الأجانب بوقف استثماراتهم , وتسييل القائم منها مما تسبب بهبوط آخر للبيزو، وإحداث تأثير امتد على شكل موجات خفيفة (كتأثير التيكيلا) في البداية لكنه سرعان ما تحول إلى  إعصار عنيف تبين بعده أن المكسيك بحاجة إلى  رهن أصولها لتسديد الديون، والوقوف على قدميها من جديد. 

لقد كان أداء المكسيك متواضعاً بسبب التحرير السريع للتجارة، واخـتلال سوق العمل إذ لم يترافق تحسن الإنتاجية بارتفاع الأجور الحقيقية للعمال، كذلك اتسمت خطتها الصناعية بالضعف نتيجة لتركيز صادراتها على صناعات التجميع البسيطة التي تحتوي على قيمة مضافة منخفضة ومستوى منخفض من المهارات، وهكذا فإن المكسيك لا تزال بعد اثني عشر عاماً من الكارثة تقف في البداية،لكنها لا تقف على عتبة الدخول إلى  عالم الغنى، بل على عتبة الفوضى والحرب الأهلية، وأثبتت تجربتها أن الاعتماد على القروض.. والاستثمارات غير الموجهة.. والتوظيفات قصيرة الأجل.. والمضاربات في أسواق المال، وإهمال مطالب الفئات الشعبية، لن يجلب التقدم والرخاء، فحيثما حاول بلد أقل نمواً الوقوف دون تدابير تشجيع وحماية الصناعة الوطنية، ومجموعة من السياسات الجمركية الحمائية تجاه الصناعات الوافدة من دول الشمال، فإن الفشل كان مصيره، فالتجارة الحرة تعني أن الغلبة للأقوى ليس في أمريكا اللاتينية فقط.

سورية على بعد خطوات من القضاء على الإرهاب بعد إنجازات جيشنا الوطني، وتبدو المهمة الملحة اليوم وضع خطة حكومية لإعمار سورية بعد ما سببته تداعيات الأزمة السورية من دمار.. وخراب.. وخسائر جسيمة للقطاعات المنتجة في اقتصادنا الوطني. فلنحذر حصان طروادة المتمثل بقروض المؤسسات المالية الدولية المرتبطة بالإمبريالية الأمريكية.. والرأسمالية العالمية…

المراجع

1– راجع انترناسيونال هيرالد تربيون 16/1/ 1995 – فاينانشال تايمز 26 /1/1995

2- راجع آن هوفشميدت – الأزمة في المكسيك

 

 

العدد 1105 - 01/5/2024