التسلل الطوعي للأفكار

 الليبرالية مذهب فكري ينادي بالحرية الكاملة، في ميادين الحياة المختلفة، لا تقيدها أحكام الدين. والليبرالية كما يقول الباحث محمد ربيع في كتابه (الفكر السياسي الغربي من أفلاطون إلى ماركس)، تعدّ كغيرها من المذاهب السياسية والاجتماعية نمطاً فكرياً عاماً، ومنظومة متشابكة من المعتقدات والقيم، تشكلت عبر قرون عدة، منذ القرن السابع عشر. تاريخياً صاغ الفلسفة الليبرالية عدد كبير من المفكرين منذ جون لوك وآدم سميث وجان جاك روسو وغيرهم. لكن الليبرالية تعرضت لتغيرات هامة منذ منتصف القرن التاسع عشر، تحت ضغط المطالب الشعبية للحركات العمالية خلال ثورتي 1830و 1848 في أوربا، وبسبب تزايد الفوارق الطبقية وبروز الحركة الاشتراكية. وفكرة الليبرالية الرئيسية في الاقتصاد هي الحرية في النشاط الاقتصادي، دون تدخل الدولة، أو أن يكون تدخلها محدوداً وعلى نطاق ضيق.

نشأت الليبرالية في العالم العربي مع دخول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1789م،  إذ تأثرت النخب المصرية بالفرنسيين، ويختلف الباحثون حول مدى هذا التأثير،  فرئيف خوري في كتابه (الفكر العربي الحديث وأثر الثورة الفرنسية) يعتقد أن هذا التأثير كان كبيراً، في حين يعتقد آخرون على سبيل المثال إسماعيل مظهر (كتابه: النهضة والسقوط في الفكر المصري) وأحمد عبد الرحيم (الفكر العلمي، نشوءه وتطوره في مصر) بمحدودية هذا التأثير.

لاحقاً انتقلت الليبرالية بشكل ممنهج إلى سورية مع بداية القرن الحادي والعشرين، وبدأت تتسلل إلى مجتمعنا كأفكار جديدة وغير مألوفة عن الحرية والشركات العابرة للقارات، ترافق ذلك مع أصوات تتحدث عن ضرورة الإصلاح الإداري والمالي في الدولة بالاعتماد على خبرات أجنبية للمساعدة في ذلك، وكأن سورية عاقر لا تنجب كوادر لديها الكفاءة لمهام كهذه. كما سُنّت بعض المراسيم والقرارات التي تحدّ من دور القطاع العام لصالح القطاع الخاص، وظهرت فكرة القطاع المشترك والترويج لهذه الخطوة، ثم بيعت بعض القطاعات العامة للقطاع الخاص وجرى تحويل بعض المؤسسات إلى شركات، وخلال العقد الماضي أصبح الطريق ممهداً تدريجياً لتغلغل الليبراليين الجدد ووصولهم إلى موقع القرار الاقتصادي، فكانت حصيلة إبداعاتهم ولادة ما سمّي (اقتصاد السوق الاجتماعي)، وهو يعتبر نصف المسافة بين نظام الدولة الاشتراكي والاقتصاد الليبرالي.

عدد لابأس به من الشخصيات الاقتصادية من السلطة والمعارضة روجت لهذا النوع من الاقتصاد، لهذه الخطوة في سعي منهم ليكون لهم حصة من الشركات العابرة للقارات. هكذا انتشرت في سورية ثقافة ليبرالية دون مقاومة تذكر، ذلك أن جزءاً من يمين اليسار أصبح مقتنعاً بركوب القاطرة الرأسمالية، ربما ليس قناعة بها بمقدار ما هو ردة فعل على سياسة التهميش والإقصاء التي مورست بحقهم، ومنهم من حوكم بتهمة معاداة النظام الاشتراكي، وغالبيتهم كانوا من اليساريين. هكذا أصبح الليبراليون في موقع القرار مع كامل الامتيازات، بينما استمر اليسار في حالة الضعف والتشظي لا يقوى على فعل شيء، ومع غياب مناخ الفعل السياسي بدأت مكتسبات الفقراء تتضاءل وتسجل الجماهير الخسارة تلو الأخرى من الطبابة المجانية إلى التعليم المجاني والدعم التمويني.

الآن في ظل الأزمة السورية أصبح منظرو اقتصاد السوق الاجتماعي في بداية العطاء الليبرالي، نشاهد إبداعاتهم في إدارة الأزمة من احتكار وغلاء أسعار وتعطيل للزراعة التي هي عصب الحياة في بلداننا النامية، وبفضل جهودهم أصبحوا خبراء في صناعة الأزمات بدلاً من حلها.

العدد 1107 - 22/5/2024