في مواجهة التحديات الداخلية للمرحلة القادمة

لا شكّ في صوابية مواقف غالبية الشيوعيين السوريين إلى جانب الدولة، في معركتها مع عدوان التحالف الإمبريالي الرجعي الذي كان يستهدف إخضاع سورية، وإلحاقها بقافلة التبعية، لنهب ثرواتها والتحكم بقرارها المستقل والقضاء على مشروعها المقاوم. فخلال سبع سنوات قاسية للغاية كان كل مفصل من مفاصلها يشكل فضحاً لحقيقة العدوان وطبيعته وتأكيداً في الوقت نفسه على تلك الصوابية من جهة الصراع الوطني، أما من جهة الصراع الطبقي فثمة تناقض جوهري يتفاقم يوماً بعد يوم، مع كل مؤشر جديد على التوجه الممنهج للدولة نحو اقتصاد السوق الحر والخصخصة وما يتبع ذلك التوجه على الجانبين الاجتماعي والسياسي، فماذا يعني استمرار الدولة في المضي بالتوجه نفسه الذي شكّل أهم الأسباب الداخلية التي شرعت أبواب البلاد لقوى العدوان الخارجي؟ وكيف يمكن للشيوعيين السوريين حل ذلك التناقض؟

إن مبرر تحالف الشيوعيين السوريين مع حزب البعث الممثل للطبقة البرجوازية الصغيرة أملته ظروف نضالية تاريخية مشتركة، كانت خلالها البرجوازية الصغيرة تحمل نزعة تقدمية، وتستمد قوتها الشعبية من جماهير العمال والفلاحين الذين وجدوا فيها بالمقابل سنداً لهم وتعبيراً عن مصالحهم، فقد جمعت هوية البعث بين الاشتراكية والقومية العربية العلمانية، وكانت أهم أهدافه التحرر من الاستعمار والإمبريالية وإقامة النظام الاشتراكي العربي، ونص دستور الحزب على الكثير من المواد ذات التوجه الاشتراكي  كالمواد 4و 26 و29 و30الى 33 و37 و42 التي تنص على إلغاء التفاوت الطبقي وغيرها. ومع وصول هذه الطبقة إلى السلطة السياسية في البلاد 1963 وانعقاد المؤتمر القومي السادس، بدأت تظهر التوجهات الاشتراكية التي تصب في مصلحة الجماهير الكادحة كواقع جديد سعى للقضاء على الاستغلال، من خلال جملة من التدابير العملية كالتأميم والإصلاح الزراعي، والتعليم والطبابة المجانيين، ودعم الصناعة والتصنيع، والقوانين المتعلقة بالاستثمارات، وإنشاء مؤسسات للقطاع العام الذي تديره الدولة التي تمكنت، من خلاله، من تشغيل أكثرية السكان القادرين على العمل، مما أدى، فضلاً عن الاستقرار الاجتماعي، إلى ارتفاع معدل النمو السنوي إلى 8,5 % عام ،1987 وانخفاض البطالة إلى 4% والعديد من النتائج الكبرى على الصعيد التنموي. ولكن منذ عام 1991 بعد مشاركة سورية في مؤتمر مدريد، بدأت تلوح مؤشرات التخلي عن النهج الاشتراكي لصالح اقتصاد السوق، وتأكد ذلك في عام 2005 حين تبنى حزب البعث في مؤتمره العاشر اقتصاد السوق(الاجتماعي) وتخلى عن التوجهات الاشتراكية، وبضمنها الدور الرعائي للدولة وسياسة دعم الفئات الفقيرة، وبدأت الإطاحة بالقطاع العام ومحاولات خصخصته، وتعديل قانون العمل وقانون الاستثمار الجديد لصالح الطبقة الرأسمالية الطفيلية الجديدة من تجار وصناعيين وأصحاب رؤوس الأموال، وترافق ذلك بوعود براقة بتقليص نسب الفقر.ولا بد من الإشارة إلى أن التحول لم يكن مرتبطاً فقط بالعامل الموضوعي والنتائج التي أدى إليها انهيار المنظومة الاشتراكية وهيمنة القطب الأمريكي الأوحد، ولا بمفهوم التجديد الذي شاع كثيراً في الإعلام كمبرر للتحول، إنما أيضاً بالعامل الذاتي المرتبط بطبيعة أحزاب البرجوازية الصغيرة عند وصولها إلى السيطرة الطبقية، والعلاقة مع الطبقة الكادحة التي تختلف كلياً عن علاقتها بهذه الطبقة نفسها قبل الوصول إلى السيطرة، إذ يتحتم على الطبقة المسيطرة الحفاظ على سيطرتها عن طريق بناء علاقات كولونيالية تتناقض تماماً مع مصالح الجماهير، وهو ما حصل بالضبط فتبني حزب البعث لاقتصاد السوق قد تحقّق لصالح الفئات المالكة المدعومة ببيروقراطية مؤسسات الدولة، على حساب الطبقة الشعبية الفقيرة، وقد انعكس على مستوى معيشتها كلُّ نتائج التحول إلى اقتصاد السوق، سواء من جهة سوء توزيع الدخل، أو من جهة تقلص فرص العمل، وتراجع الأجور، وموجات الغلاء، مع غياب الدعم، والازدياد  الخطير في نسب البطالة؛ فتعاظمُ دور القطاع الخاص وسيطرته على المفاصل الرئيسية للاقتصاد الوطني.

لكن التنازلات التي قدمتها الدولة للرأسمالية الطفيلية المرتبطة مصالحها بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي لم تشفع لها عند أباطرة النظام العالمي الجديد، الذي قرن شروط الإخضاع الاقتصادي بالإخضاع الاجتماعي والسياسي والثقافي والإداري بشكل كلي، وكان المطلوب حين أدرجت سورية على قائمة بوش للدول المارقة إقامة نظام يقضي على كل أثر لحركة التحرر الوطني وحق تقرير المصير وما تبقّى من مبدأ السيادة، وأن يطبّع مع الكيان الصهيوني ويسلم كل مفاتيح البلد على غرار ممالك ومشيخات الخليج العربي، ولذلك عندما فشلت الإدارة الأمريكية في فرض أجندتها بالقوة العسكرية عبر الذراع الصهيوني في حرب 2006 على حزب الله حليف سورية اللبناني، لجأت إلى وسائل الخرق الأمني والإعلامي، وبقيت أبواق الدعاية التحريضية لسنوات تتلاعب بالغرائز المذهبية والطائفية، وهي  مدركة تماماً لمفعول تلك الوسائل البالغ التأثير على جمهور مهمش يعاني من الفقر المادي والمعنوي، إذ كانت الدولة قد فشلت أيضاً في الحفاظ على الوعي الوطني لشرائح واسعة من هذا الجمهور الذي عجز عن قراءة المشهد بكليته عام ،2011 فاستجاب بعفوية لدعوات التظاهر التي أطلقها الإخوان المسلمون.

لنقل بكل ما يتطلبه الضمير الوطني إن التحول نحو اقتصاد السوق هو الذي هدّد الأمن الاجتماعي السوري وضربه من الداخل وقضى عليه، وما مرّ على بلادنا خلال سبع سنوات كارثية استثنائية في التاريخ المعاصر لم يكن نتيجة للعدوان الخارجي فقط، بل أيضاً نتيجة من نتائج  ذلك التحول، فالأرقام تتحدث عن ما يقارب نصف مليون قتلوا من أبناء شعبنا و117 ألفاً فُقدوا و7,6 ملايين نزحوا داخل البلاد و5 ملايين لاجئون خارج البلاد و8,2مليون  طفل لا يدرسون بسبب المدارس المدمرة أو الهرب من مناطق النزاع المسلح، و85,6 مليار دولار أضرار مادية  و32809 منشأة حكومية وخاصة جرت سرقتها و27438 مبنى قد دمّرت.

المشكلة الكبرى أن أصحاب النهج الاقتصادي السوري الجديد المتسببين بتلك النتيجة يتعامون عن العامل الداخلي ويركزون على العامل الخارجي بمفرده، فبعد دماء وموت وجوع ومشاق وحرمان ودمار السنوات السبع، هناك إصرار على المضيّ بالسياسة السابقة نفسها اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، مما يعني  استمرار إنتاج الأسباب الداخلية المولدة للأزمة مع تزايد الفقراء فقراً والأغنياء غنىً وتصعيد المواجهات الطبقية وعدم الاستقرار الاجتماعي، ودخول البلاد في نفق جديد من تناقض مفهومي الصراع الطبقي والوطني، فما لم تحققه قوى العدوان الخارجي بالقوة والعنف والإرهاب، ستحققه لهم الرأسمالية الطفيلية الداخلية بهذا الشكل أو ذاك من أشكال التبعية، مما سيصعد المواجهة بين القوى السياسية الممثلة لمصالح الطبقة الفقيرة، مع تلك الرأسمالية وهي تتجه نحو الكولونيالية أكثر فأكثر، وبالتالي نحو عجزها عن الاستمرار بنهج استقلالية القرار من دون قوة الجماهير.

لقد قدم الشيوعيون قراءة جدلية موضوعية علمية فريدة من نوعها في تحليل الأزمة المركبة من جميع جوانبها، لكن كيف يمكنهم تحويل النظرية إلى قوة مادية في ظل اختلاط الأوراق كلها، سواء من جهة هيمنة الوعي الديني على الشارع السوري، أو من جهة اختلال توازن القوى لصالح الرأسمالية الطفيلية الممسكة بالقرار الوطني؟

لاشك أنه مأزق كبير تتلخص تحدياته في القدرة على معالجة الشرخ الاجتماعي العميق الحاصل، وحشد كل شرائح المجتمع من أجل سورية المدنية الديمقراطية التعددية، وهو ما لن يحصل من دون القدرة أولاً على توحيد جهود كل القوى التقدمية المناهضة للاستعمار والليبرالية المتوحشة والفكر التكفيري الرجعي.

حينئذٍ فقط يمكن الحديث عن فعل سياسي مؤثر، وممارسة سياسية ضاغطة، لإعادة الدور الأساسي للدولة في عملية التنمية المستقلة، التي يعتبرها الدكتور منير الحمش (النقيض العملي للتبعية)، وهي في الوقت نفسه الطريق إلى العدالة الاجتماعية. وهو يفسر معنى استقلالية التنمية على أنها توفير أكبر قدر من حرية الفعل للإرادة الوطنية المعتمدة على تأييد شعبي حقيقي، في مواجهة عوامل الضغط التي يفرزها النظام الرأسمالي الإمبريالي في إطار دعاوى العولمة-حسبما ورد في كرّاس (أيَّ نهج اقتصادي واجتماعي نريد- ص 125). ويتوافق على هذا المحتوى نفسه العديد من الباحثين الاقتصاديين، فقد أكد الباحث بشار المنير على المشاركة الشعبية وكتب (في المصدر السابق نفسه- ص149): إن مضمون النموذج الاقتصادي التنموي يتطلب قيام الحكومة بالإشراف على إعادة توزيع عوائد النمو بين الفئات الاجتماعية، عبر سياسة ضريبية  عادلة متوازنة تتيح للخزانة تمويل شبكة  واسعة من الخدمات، كالتعليم المجاني والضمان الصحي وتنمية المناطق المتخلفة  وبؤر الفقر وتمكين المرأة. ولفت الدكتور سنان علي ديب (ص164) إلى ضرورة اعتماد نهج اقتصادي خاص بسورية يحقق العدالة الاجتماعية ويحافظ على صلابة البنى الاجتماعية منعاً من تغلغل الأعداء من داخل المجتمع نتيجة الأمراض الناجمة عن الفقر والبطالة وسوء توزيع الثروة وغياب القانون، ويكون هدف هذا النهج استرجاع الأمن الغذائي. كذلك دعا الباحث ثامر قرقوط (ص 196) إلى مواجهة التحديات عبر خلق نموذج اقتصادي سوري اجتماعي الطابع، يحافظ على الدور الأساسي للدولة في الاقتصاد ودعم السلع الأساسية والاستناد إلى عناصر القوة في الصناعة والزراعة.

العدد 1105 - 01/5/2024