هل الليبرالية الناشئة في سورية خطر على العلمانية؟

 لكل أزمة من الأزمات التي تعصف بدولة ما أسباب عدة، منها أسباب داخلية مرتبطة بمجموعة من التدابير الاقتصادية والسياسية التي تستخدمها سلطة تلك البلاد، ومنها وأسباب خارجية متمثلة بموقف الدولة من القوى الكبرى وأطماعها في تلك الدولة، ولكل دولة مقام خاص من الأهمية يميزها عن غيرها من الدول، فالسعودية مثلا تختلف عن الأردن وعن قطر، والعراق تختلف عن جزر القمر، والدول المهمة هي عادة تلك التي تكون تحت مجهر الدول الاستعمارية للتدخل في شؤونها. لكن بمقدار التماسك الداخلي النابع من المساواة والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والاستقرار الاقتصادي للمواطنين، يتحدد دور الخارج التدخلي ويصعب عليه الاختراق. هكذا تبتعد الاطماع الاستعمارية، لكنها لا تختفي خاصة في ظل قانون دولي هش ونسبي تتحكم فيه بضع دول ذات توجهات ليبرالية متوحشة، وتتجاوزه متى أرادت كما حصل مع احتلال العراق.

لكن لولا نقاط الضعف المتعددة التي كانت حاضرة داخل المجتمع العراقي لما استطاعت الولايات المتحدة احتلاله. إن الأطماع الخارجية لا تتحقق إلا في المجتمعات ضعيفة الاندماج، وعبر المواطنين الضعفاء الذين يُعلون شأن اي انتماء تحت وطني، فنقطة الضعف المشتركة الموجودة في العالم العربي، والتي شكلت في الماضي وتشكل الآن جسر عبور لكل طامع ومحتل هي الورقة الدينية المُستثمرة طائفياً ومذهبياً، لذلك دون فصل الدين عن الدولة ستبقى بلداننا محكومة بنقطة ضعيفة وهشة يمكن للطامعين اختراقها متى أرادوا بحكم التنوع الطائفي والمذهبي. من هنا تأتي مطالبة معظم النخب السياسية والثقافية السورية بالدولة العلمانية، لا من باب  الفنتازيا، إنما من ضرورة حقيقية لترميم نقطة الضعف الخطرة الموجودة ليس في سورية وحسب بل أيضاً في الوطن العربي.

وقد ناقشت فعاليات سياسية حتمية العلمانية في معرض مناقشتهم ما سمي (مشروع الدستور الروسي) الذي جاء صراحة دون ذكر لفكرة العلمانية جملة وتفصيلاً، ونذكر هنا مثلاً الحزب الشيوعي السوري الموحد وهيئة العمل الوطني وتيار طريق التغيير السلمي، فالصراعات التي تُستثمر في مصر وسورية واليمن ولبنان وغيرها من الدول هي أوراق مذهبية وطائفية، ولا يمكن تجاوزها دون فصل الدين عن الدولة. وليس خافياً على أحد أن ثقافة الليبرالية الجديدة التي تسللت الى المجتمع السوري منذ تسعينيات القرن الماضي- برضا بعض أطراف السلطة الحاكمة- قد شكلت انزياحا معرفياً عند الكثير من النخب اليسارية التي ركبت موجة الليبرالية الجديدة وشكلت ذراعاً من أذرعها، كما شكلت هذه النخب انزياحاً حقيقياً بالوعي الوطني لدى الكثير من أبناء المجتمع السوري، وظهر هذا الانزياح بعد عام ،2011 لكن أسباب الانزياح ليس فقط المد الليبرالي، بل هناك أسباب عديدة أهمها غياب الثقافة الوطنية التي تشكل الجهاز المناعي له، وتقديم ثقافة استهلاكية هابطة تعتمد على قتل الوقت دون جدوى، والاهتمام الشديد من قبل الدولة بتقديم العديد من البرامج الترفيهية والدرامية التي ساهمت بشد اهتمام الأجيال لها على حساب الأشياء الأكثر أهمية التي تساعد في بناء جيل طبيعي يستطيع مواجهة التحديات بطرق علمية صحيحة.

إن مجموع البرامج المخصصة لجيل الشباب على المحطات الفضائية الرسمية وغير الرسمية من برامج دينية ورياضية وأبراج وغيرها تكاد تعمي بصيرة المشاهدين، فكيف تفعل بالأجيال الحديثة التي تفتقد أبسط وسائل المحاكمة العقلانية. إن المناخ الفكري والثقافي المستوحى من البروباغندا الليبرالية هو واحد من أسباب اختفاء مظاهر العلمانية وظهور الإرهاب، وكل أشكال التطرف تلك، هذا المناخ لم يأتِ من المريخ، وأشكال التطرف هذه ليست غريبة على مجتمعاتنا، لقد ولدت ولادة طبيعية في المنطقة العربية، ومن يعتقد بإمكانية القضاء على التطرف ومخرجاته كداعش والنصرة دون تثبيت مبدأ العلمانية لخلق مناخ مواتٍ لقبول الأفكار المختلفة والحوار معها، على قاعدة ليس هناك من يمتلك الحقيقة، ونبذ الأفكار المتطرفة، فهو مخطئ تماماً. والسبيل الناجح حالياً هو العمل على فتح حوار وطني مسؤول وجاد بغية الإجابة عن معظم التساؤلات التي أوصلت حال الدولة السورية إلى ما وصلت اليه، ووضع خطة عمل إنقاذية لوقف التدهور الحاصل في المجتمع، ذلك أن الكفاءات السورية الموجودة لتحمّل هذه المسؤولية كثيرة ومتوفرة، والانتظار لا يمكن تبريره.

العدد 1105 - 01/5/2024