التشاركية ودورها الفعال في الانطلاقة الاقتصادية الفعالة

 

التشاركية.. مصطلح أثار جدالاً كبيراً قبل الأزمة، ومع أنه سابق لها بعقود ولكن الثقة المفقودة بين التنظير وبين التطبيق جعلها بين قطبي رحى وأثارت جدالاً وخلافاً كبيراً. فالتشاركية بين القطاع العام والخاص تهدف لتحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية بحيث تستطيع الحكومة الاستمرار بالتنمية الاقتصادية والبشرية والاجتماعية بما يمثل الاستثمار الأمثل للموارد وبما لا يحيدها عن إدارة التنمية.
وهي مفهوم قديم أخذ أشكالاً متعددة عبر الزمن وفي مختلف البلدان، دون أن يكون لها تعريف واحد متعارف عليه بين الدول.
لكن من المتفق عليه أن مفهوم التشاركية يقوم على مشاركة القطاعين العام والخاص في تنفيذ وتشغيل مشروعات تنموية تحتاج إلى خبرة فنية واسعة لتشغيلها وإدارتها تفوق قدرة القطاع العام.وقد تكون كذلك تشاركية بين منظمات دولية أو محلية والقطاع العام، وهي لا تعني الانتقال الكامل للملكية وإنما إعادتها للحكومة بعد انتهاء مدة العقد، وهي بذلك لا تشمل مفهوم مقاولات تنفيذ عقود الإنشاء مع القطاع العام أو عقود توريد السلع والخدمات من القطاع الخاص إلى القطاع العام.

كان موضوع التشاركية مثار جدل كبير قبل الأزمة بين فريقين، الأول يريد تطبيق مقررات مؤتمر واشنطن المتجسدة في وصفات البنك الدولي وصندوقه ولو على طريقة الصدمة مهما كانت نتائجها، وآخر ينظر إلى أهمية تفعيل دور القطاع الخاص ومشاركته في التنمية إنما بفاعلية تزيد الطاقات الانتاجية وتحقق مزيداً من النمو والتنمية،
وليست تشاركية محاباة على حساب القطاع العام وبناه المستطاع إصلاحه لو وجدت النوايا والإرادة. وكان موضوع محطة الحاويات في طرطوس واللاذقية ومعمل أسمنت طرطوس أساس هذا الجدال والخلاف،
فما نفذ بهذه القطاعات لم تكن تشاركية وإنما محاباة للبعض بأسلوب توفير ربح جاهز وعدم التقيد بالعقود وعدم زيادة الطاقات الإنتاجية، وإنما منح قطاعات منتجة ذات مدخول وجاهزة للاستثمار المتزايد في حال القيام بإصلاحات قليلة.
ولم يقف طموح المستفيدين عند هذا الحد وإنما تجاوزه للتفكير بقطاعات أخرى، ومنها ما قد ينعكس على حياة المواطن ويزيد من عبء تكاليف الحياة كالكهرباء والمياه، وكذلك محاولة تعطيل إصلاح القطاع العام لتحقيق الاحتكار وتكديس الأموال. وبعد الأزمة المأساوية والدمار الذي نجم عنها بتكاليف تقدر بحوالي 300 مليار دولار، ودمار حوالي ثلث المساكن وآلاف المدارس ومئات المشافي والمستوصفات ونصف معامل القطاع العام ونصف محطات الصرف الصحي ومعظم السكك الحديدية ومئات الجسور،
وبعد الحصار الاقتصادي والعقوبات الظالمة المفروضة على سورية، أصبح هناك ضرورة لتعاون الجميع لإعادة البناء والمشاركة بترميم وإصلاح ما حملته لنا هذه الحرب الظالمة من الناحية الاقتصادية وما نجم عنها من كوارث اجتماعية فاضت على ما كان موجوداً من عدم توازن التنمية،
فنتائج الحرب تفرض تعاون الجميع: القطاعان العام والخاص ومدخرات المنظمات والهيئات ورؤوس الأموال الوطنية داخلاً وخارجاً، ففي فترات عدم الأمن والاستقرار أكيد رأس المال الجبان لن يقترب ولن يستثمر، فكلنا يعرف أن رأس المال جبان يبحث عن الاستقرار ويبقى الموضوع بيد من يحمل هماً وطنياً ويرى أن العمل واجب وغاية لعودة الاستقرار للعيش الأمن والسليم.

والتشاركية سابقة لمرحلة ما قبل الأزمة بفترات وبقطاعات مختلفة ومنها ما هو محلي ومنها ما هو مع شركات أجنبية ولو أن أبعاد الشراكة مع غير السوريين قد يظهر له أبعاد غير مالية وقد تنعكس على أمن الوطن، فمنذ الخمسينات كان هناك شراكة لإدارة المرفأ،
وبعدها في السبعينات كانت تشاركية مع شركات نفطية للتنقيب والاستثمار، وكذلك شراكة بالقطاع الزراعي والسياحي عن طريق الشراكة بالإدارة أو عقود محاصصة لفترات زمنية، وبالتالي هي ظاهرة قديمة ونجحت في قطاعات، ولولا الخلاف الجذري ما قبل الأزمة لما حصل شكوك وتخوف منها، ولكن ظروف الأزمة لا تعفي من شروط يجب توفرها للسير بالتشاركية بأنواعها المختلفة،
من حيث الإدارة عندما يكون هناك نقص تكنوقراطي بقطاعات معينة، أو من حيث مشاركة القطاع العام بأرض لإقامة منشآت لفترة محدودة ومن ثم تعود ملكيتها للدولة. ففي التشاركية لا يجوز أن تنتفي صفة ملكية الحكومة عن الأصول المشاركة بها وإلا تحول لخصخصة، وكذلك في منح ترخيص لشركات لتنفيذ بنى تحتية لمدد طويلة ومن ثم يعود الريع للحكومة، وفي هذه الشراكات يجب أن لا يغبن أي من طرفي المشاركة، لا الحكومة بمن تمثله من الشعب، ولا الشريك الآخر بحيث لا تنعكس هذه الشراكة على الخدمات المقدمة للمواطن، كأن يتحكم الآخر بثمن الخدمة بما يفوق استطاعة المواطن وكذلك بما لا يحقق خسارة أكيدة للشريك. وبالتالي فإن الخوض بهذا المضمار بحاجة إلى كفاءات مؤهلة ومدربة قادرة على وضع العقود المناسبة، وذات خبرة ودراية بدراسة أي مشروع من حيث جدواه الاقتصادية والفنية، وكذلك لا بد من وجود كفاءات وخبرات قادرة على متابعة سير المشروع والمعرفة الكاملة بتفاصيل عمله ومردوده. وقد عانينا سابقاً من تشاركية وخاصة في القطاع السياحي بأسعار زهيدة ولفترات مديدة تصل إلى 99 سنة وهو ما يعتبر تخسيراً لموارد الدولة وتربيحاً ومحاباة للبعض، وكذلك لا يمكن الخوض بعمق التجربة من دون وجود محاكم مختصة وسريعة بدراسة عقود التشاركية وسريعة بأخذ القرارات في حال اللجوء للتخاصم..

وبالتالي فإن إنشاء وحدة مركزية للشراكة بين العام والخاص تكون مهمتها تطوير الإطار القانوني للتشاركية وتطوير السياسة الوطنية لها هو ضرورة ملحة للانطلاقة الصحيحة في إعادة البناء والانطلاقة الاقتصادية.
وهنا لابد من التوضيح أن الأخذ بموضوع التشاركية كغاية قد يحرفها عن مسارها وعن ما نأمله منها في تكامل التعاون الاقتصادي بين شرائح المجتمع كافةً لتجاوز الانعكاسات الأزموية. والانطلاقة الجديدة هي وسيلة وليست غاية، وهذا يجب أن يكون منظور الحكومة وقد صرح البعض في ملتقيات بأن التشاركية حل لتزاحم المصالح بين الحكومة والقطاع الخاص والقبول بالتشاركية من هذا المنظور غير مقبول سابقاً ولن يقبل لاحقاً،
فالحكومة المنبثقة من أي شعب وتعمل بشكل مؤسساتي لا يقبل أن تدخل بصراع كهذا لأن الإطار القانوني الوطني وسلطة القانون كفيلة بوضع حد لمن يريد مواجهة الدولة بغير حق، ولكن التعاون ضروري لضرورات الوطن وللاستثمار الأمثل للموارد طبقاً لحاجات البلد المدروس، وقد يرى تبريرات لأشكال من التشاركية غير المنطقية المحابية للبعض محمية بتبريرات كهذه لا تعبر إلا عن ضعف أو تشاركية بين صاكي العقود من نوع آخر على حساب الوطن..

و بالتالي ليس الانسياق وراء التشاركية هو من أجل تقوية الخاص على الحكومة كقائدة للعملية التنموية، وليس رفض التشاركية في بعض القطاعات هو لأننا ضد القطاع الخاص، فالتشاركية هي عملية مزج دور القوى الوطنية في عملية البناء وهي تختلف عن الخصخصة التي حاولت بعض القوى السير بها لسحب سيطرة الحكومة، وذلك عبر الانسجام والتناغم مع قوى حاولت تفشيل القطاع العام وعرقلة إصلاحه في ظل توافر الإمكانات، وتلاحقت هذه العملية بعملية تدمير ممنهج لأغلب المصانع التي لم تمت رغم مختلف الحقن المسرطنة، وبالتالي التشاركية لا تعني التوقف عن السير بإصلاح القطاع العام الذي يجب أن تتزايد الهمة نحوه لأنه في ظل الأزمة الرافد الأهم للمنتجات ولتشغيل اليد العاملة وتأمين الموارد للموازنة.

فالتشاركية من حيث الواقع تشكل صيغة تمويلية وطنية بديلة للمديونية التي تحمل معها عبء خدمة الدين على الموازنة العامة للدولة.

 والتشاركية تعزز من استقلالنا الاقتصادي. وبذلك فإن مشاركة القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني حقاً من خلال بناء وتطوير وتشغيل المرافق العامة يجب ألا يعتبر خطاً أحمر، وهو لم يعتبر سابقاً فقلة من كان قبل الأزمة ينظرون هذه النظرة، ولكن أسلوب التنفيذ عبر الاحتكار أو قطع التنافسية وإقحام قطاعات بغاية الربح غير المحق الناجم عن اقتطاع حصص من العام أو عرقلة إصلاحه، وكذلك من خلال اللعب بالمواصفات وعدم التقيد بالشروط أعطى عدم ثقة عُمّمت وكان ذلك خطأ يتحمل مسؤوليته من قام به، ولكن الطروحات الحالية تعطي كلّاً حقّه من خلال أن من كان ينتقد السلوك لم ولن يكون ضد الخاص أو ضد الليبرالية التي تعني المنافسة والحرية والعدالة الاجتماعية المحمية من الدولة،
وهو ما كان تحت عنوان اقتصاد السوق الاجتماعي الذي لم ينفذ منه شيء، وإنما فرض أسلوب اقتصادي لم يهمه شيء من الاجتماعي وهدفه مواجهة العام، وبالتالي من يقول إنه يجب أن يكون هوية للاقتصاد فلماذا اختزال الهوية الاقتصادية بنموذجين؟ ولماذا لا ينظر إليها من خلال برامج تحقق المبتغى وتراعي الخصوصية؟ وبالتالي إن تحقيق التشاركية بما يحقق مصالح البلد ووفق ضوابط قد يؤدي إلى صورة صحيحة عن الهوية التي يريدها البعض فقط بما يحقق مصالحه أو مصالح من يوجهه أو مصالح من يدفع له.

وقد وضع القانون رقم 5 لعام 2016 لتأطير التشاركية القادمة وقوننتها، ولكن وضع القوانين ليس كافياً، فيجب أن يتابع بتأمين الكوادر القادرة على السير بهذه القوانين بما يحمي حقوق الحكومة وييسّر عمل الشريك، فمؤسسات الدولة بحاجة إلى كوادر قادرة على التخطيط الصحيح ووضع الشروط العادلة للعقود من خلال دراسة جدوى اقتصادية دقيقة وشروط فنية وحقوقية عادلة تراعي كلا الطرفين وكوادر دارسة للحاجة الحقيقية وكيفية وضع الشروط الميسرة والفاتحة المجال لأكبر عدد من المتقدمين، فكلما ازداد عدد الراغبين بالشراكة كانت الشروط أقوم وأعدل للحكومة، وهي كذلك بحاجة إلى كوادر قادرة على التفاوض وكوادر نزيهة منضبطة لمتابعة سير التنفيذ ضمن الشروط المتفق عليها ومحاولة علاج أي اعوجاج بوقته دون تأخير ودون محاباة بالتنفيذ مقابل فوائد غير محقة،
وكذلك فإن الشركات المحلية الخاصة لم تصل إلى المستوى القادر على الخوض بهذه التجربة ولم تعط الثقة مع الآخر ومن يمثله من خلال تجاربه السابقة، ومن دون توفر هذه الثقة فلا دور فعالاً متكاملاً للتشاركية، إضافة إلى ذلك لا بد من تطوير القطاع المصرفي والمالي بما يناسب تجارب كهذه، فالقطاع المصرفي السوري بشقيه العام والخاص في الوقت الحاضر لا يمتلك القدرة المالية والعمق والتنوع لتمويل مثل هذه المشروعات. فمؤسساته مازالت تقتصر على المصارف التجارية التي تجذب الودائع وتمول المشروعات القصيرة الأجل، وكذلك نفتقر إلى المؤسسات المصرفية الاستثمارية والمؤسسات المالية غير المصرفية التي تقدم التمويل الطويل الأجل. لذلك ينبغي الإسراع بإقامة مؤسسات التمويل الطويل الأجل وكذلك مصارف الاستثمار…

ولا تقتصر التشاركية على المشاريع ذات الكثافة برأس المال، فالتشاركية ليست فقط للمشاريع الكبيرة ذات الكثافة الرأسمالية، وقد تكون مشاركة لاستثمار الإبداع ورأس المال البشري كما تقوم بعض الجهات العامة بمحاولة ربط مخرجات الإبداع بالواقع عبر دعم إبداعات الشباب وتطبيقها لتأخذ حيز الوجود الفعال، وكذلك التشاركية بين مؤسسات القطاع العام وبعض جمعيات المجتمع الأهلي في رعاية مشاريع صغيرة أساس الانطلاقة الاقتصادية الفعالة المتكاملة، وبالتالي يجب أن يكون هناك خارطة تنموية تحتوي الاحتياجات الأساسية وكيفية تأمينها عبر أولويات، ومنها تنبثق خارطة استثمارية يحيّد منها ما يمكن أن تتصدى له مؤسسات القطاع العام، ثم ما يحتاج إلى تشاركية وبعدها ما يمنح للقطاع العام، وفيما نراه من مشاريع إعادة تأهيل البنى التحتية وإعادة إعمار المدن والبناء وإن كان أغلبه تحت بند التطوير العقاري أو إذا عدل القانون فإن حقوق المواطنيين المثبتة عقارياً أو غير المثبتة للسكن العشوائي يجب أن تكون أساسية وأي تجاوز لها يجب أن يحاسب مرتكبوه.

ولا يعني كلامنا أن التشاركية هي الحل الأوحد الأمثل، فهناك إمكانات القطاع العام منفردة وهي كبيرة، وهناك مشاريع القطاع الخاص وخاصة في ظل ما كان موجوداً من بنى تحتية تتمثل بالمدن الصناعية والبنى التحتية والموارد الأولية التي تحويها سورية، وهناك إمكانيات لمشاريع تعاون مع بلدان صديقة وقريبة ضمن شروط واضحة بعيدة عن أي خطورات أمنية أو اجتماعية، وبالتالي ما نطرحه هو دعوة للتعاون والاستثمار الأمثل للموارد بشروط الحكومة الهادفة لتأمين احتياجات البلد والمواطنين وضمان أمنه، ولا شروط- كما يروج البعض- بأن التشاركية حل وسط لمزاحمة الخاص للعام.

وأخيراً تكامل الجهود الوطنية لما بالداخل والخارج قد يخفف من المعاناة ويسرع بالانطلاقة التنموية وإعادة الإعمار، وهذا يعود على إعادة الثقة بين الفئات القادرة على العطاء وعلى تقديم التسهيلات ومواجهة الفساد وزيادة الشراكة وفصل السلطات وتفعيل دور المنظمات والأحزاب وإصلاح القضاء وإعادة الروحية للمؤسسات المنضبطة والضابطة للفوضى التي يحاول البعض تعويمها واستمرار التأزيم…

العدد 1107 - 22/5/2024