المعاناة المعيشية والحل الأمثل

 في ظل سوء الظروف المعيشية ووفق مؤشرات قمة السلبية عن الفقر المدقع وزيادة البطالة وسط أزمة معقدة نجم عنها مآسٍ كثيرة يتسارع الخبراء والباحثون لوضع التصورات لرؤى وحلول قد تكون مناسبة في ظل ظروف طبيعية أو في ظل الظروف السورية السابقة للأزمة المستفحلة أو السابقة للانقلاب الاقتصادي الذي جرى بحجة اقتصاد السوق الاجتماعي، وإذا به اقتصاد يسعى لفرض انقلاب بطريقة الصدمة ليحابي القلة على حساب الجماعة مدعياً خطورة الدعم الذي تقدمه الحكومة ولو أنه طريقة إيجابية لتوزيع الثروات وفق عدالة مقبولة ووسط مؤشرات اقتصادية قديمة، لغرض واحد وهو سلب الحكومة مفاتيح قيادة الاقتصاد وسلب الحكومة أغلب منافذ جباية الايرادات ومسارب توزيعها بما يحقق بعض العدالة الاجتماعية وبالتالي تهشيم الطبقة الوسطى لتكون مدخلاً لأزمة تحولت إلى جحيم اقتصادي واجتماعي عبر تدمير مبرمج لأغلب القطاعات الاقتصادية وعبر أساليب مافيوية لابتزاز الحكومة وفرض برامج لا تخدم الوطن ولا المواطن…

ولكن هذه الرؤى لا ترى إلا بعين ما يجب أن يكون متناسية إمكانية توفير الأموال لحلول كهذه، فالأزمة جعلت الأسرة المكونة من 5 أفراد بحاجة إلى مدخول يقدر بـ260 ألف ليرة سورية بعد أن كانت بحاجة إلى حوالي 30 ألف ليرة قبل الأزمة، وطبعاً هذا الرقم يختلف بين منطقة وأخرى حسب القرب من الوظائف أو ملكية المنزل أو حسب القرب من أماكن التعليم، ففي الكثير من القرى أصبح الالتزام بالمدارس بالتناوب بحيث لا يلتزم الطالب بكامل الدوام الأسبوعي، فكيف لا وقد أصبحت أجور النقل تصل لحوالي 60% من الدخل لشخص يقطن الريف إذا أعتبرنا أن متوسط الأجور هو 25000 ل.س.

ولكن هل الأزمة فقط هي سبب ما وصلنا إليه أم هناك ثغرات وسياسات خاطئة وتقصير؟ إن السير في طريق رفع الأجور للموظفين ليصل الراتب إلى حدود 180 ألف ليرة على رأي أحد الأكاديمين هو حل قاصر وصعب التحقيق لأسباب متعددة، فتأمين الموارد اللازمة لتأمين هذه الزيادة صعب في ظروفنا هذه، وإن السير بهذا الطريق سيؤدي لمتتالية تضخمية لا تساعد على تحسين مستوى المعيشة وإنما الدخول في دوامة تضخم صعبة السيطرة، وفلتان أسعار صعب الضبط ومكافأة من أكتنز الدولارات على حساب الليرة، ونكون بدلاً من علاج الداء زدنا من البلاء ورمينا زيتاً على النار! إضافة إلى أن عدد النازحين في سورية حوالي 7 ملايين مواطن وأغلبهم بلا عمل، عدا لعاطلين عن العمل، وكذلك نكون قد وضعنا القطاع الخاص المنطلق نحو التعافي في صعاب جديدة، مع العلم أن آخر إضافة على الرواتب استطاعت أن تمتص بعض التضخم لصعوبة الظروف التي كانت قائمة ولعدم ترافقها بأي زيادات للأسعار. أمام هذه المعضلة ما هو العمل؟

أرى أن يكون العمل وفق تلازم سياستين، الأولى تتعلق بسعر الصرف الذي كان التخبط به أحد أهم أسباب ارتفاع الأسعار وفق صعود غير قابل للهبوط إن هبط سعر الصرف، وهذا الصعود لم يعمل على كبحه أو ضبطه لابتعاد المؤسسات الحكومية عن التدخل ، وإنما كانت تعمل آنياً بردّات فعل فقط وفق ظروف صعبة بحيث تستجر موادها من محتكرين وكذلك كانت ممنوعة هي أو مؤسسات التجارة الخارجية من الاستيراد الخارجي ووفق تقويض الخطوط الائتمانية التي وقعتها الحكومة، ووفق إبتزازات متتالية لتنقيص التوريد من قبل الخاص أو دول إقليمية، وبالتالي خلق أزمات متتالية بكل السلع وحاجات المواطن.

ومن هنا فإن التركيز على موضوع الصرف الذي عانى الكثير من الأخطاء ليأتي حاكم جديد ويثبته على أبواب الـ510. وكلنا يذكر كيف أنه عندما ترك للسوق مع بعض اللعب على الموضوع النفسي هبط لحدود الـ300 ليرة، فاللعب على موضوع الصرف مع حملات لحماية الليرة بمساعدة المغتربين وأصحاب رؤوس الأموال واتباع سياسات بديلة لاستخدام الدولار، كالمقايضة وجدولة المستوردات وفق ضرورات الأمن والغذاء الضروري والمواد الأولية للصناعة مع اتباع أسلوب تسعير جديد للمحروقات تكون دافعاً لتقلص الأسعار وتخفيض التكلفة والانطلاقة الجديدة للحياة الاقتصادية، إضافة إلى ضرورة اتباع التسعير الاداري المتدحرج ووفق سياسات تقشفية عادلة عبر المخصصات الضرورية للمواد الأساسية ووفق تدخل الحكومة عبر مؤسساتها لكسر الاحتكار والمنافسة الحقيقية بعيداً عن التدخل لرافع الأسعار عبر أسعار أعلى من السوق للكثير من السلع، وعبر مكافحة الفساد في المعابر الجمركية والموانئ من نواحي تهريب البضائع أو اللعب بالأسعار والكميات للمواد المستجرة من الخارج، ما نراه من فوضى أسعار وتنظيرات وتصريحات نارية من الجهات الحكومية وتمرد واستخفاف من صغار التجار والمقاهي والمطاعم دليل على خطأ في المعالجة، فالخوف من أن تأخذ وزارة حماية المستهلك دورها الحقيقي بمراقبة الجودة والأسعار دليل على هيمنة بعض المتنفذين الذين فرضوا أسعار الدواء قافزين فوق قرار رئيس الحكومة ووزير الصحة، وكذلك دليل على تقاطع مصالح هؤلاء مع مصالح من يريدون فرض النموذج الليبرالي…

وكلنا يعرف أنه في الأزمات هناك قرارات وقوانين استثنائية وأغلب الدول التي مرت بأزمات او تحولات اقتصادية لم تترك الحرية للسوق لضبط اقتصادها كما في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية أو الصين في تحولها الاقتصادي، وما نسمعه من تمجيد لنهج ما قبل الأزمة عبر استمرار الاستعانة بأرقام مضللة كما عانينا قبل الأزمة للوصول لها أو تضخيم لحاجتنا من الموارد لإعادة البناء إلا الاستمرار بتضليلات مترافقة بإرهابيي الاقتصاد من المافيات والدواعش في الداخل، لسلب التصميم والإصرار والصبر لبلوغ الخلاص العادل لكل السوريين، قد تكون سياسات تقشفية عن طريق رفع الأسعار قد خففت الاستهلاك ولكنها كانت لكثرة بينما القلة استمرت بالرفاهية والتبذير وسهرات ما فوق التصور، وأخيراً من دون ثنائية تخفيض سعر الصرف وبالتالي تخفيض الأسعار هناك حلول غير واقعية تؤدي إلى زيادة المعاناة المعيشية.

العدد 1107 - 22/5/2024