التقدم وضرورة إعادة صياغة مفهومه

 إن مفهوم التقدم الشامل يرتكز على الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والتطور الديمقراطي والأمن والهوية الثقافية، وهي ركائز أبعد من أن تكون موجودة بصورتها الصحيحة في البلدان العربية، وبالتالي فإن هناك فجوة هائلة تفصل العرب عن التقدم بصورته الشاملة.

إن التقدم هو ركيزة مجابهة لأهم التحديات التي تواجه البلدان العربية، ومن ضمنها سورية، وبعبارة أخرى، إن التأخر هو المصدر الرئيسي لأخطر التهديدات التي تجابه هذه البلدان.

وبرغم أن التقدم مفهوم تاريخي بالنسبة لأي مجتمع معين، فإنه يتطور مع تغير الزمن، ويختلف بين مجتمع وآخر في زمن معطى، فقد تعمدت التصورات بأن ثمة نهاية له، تقاس بما بلغه مجتمع محدد أو ما تتصوره رؤية معينة، وهكذا على سبيل المثال، فإن نهاية التطور التاريخي في تصور الليبراليين هي النموذج النظري للمجتمع الرأسمالي
أو المجتمع كما يتجلى على الصورة الليبرالية الغربية، أو الأمريكية بوجه خاص. وأما نهاية الارتقاء الاجتماعي في تصور الماركسية الكلاسيكية فهي النموذج النظري للمجتمع الشيوعي، أو المجتمع كما تجسد في بناء النمط الاشتراكي أو السوفييتي بوجه خاص، ويرى القوميون والمتعصبون منهم أو الشوفينيون التقدم من منظور أوهام التفوق القومي، ودعاوى السيادة العرقية، ويتخندق الأصوليون الدينيون أو السلفيون عند تصور للتقدم لا يتخطى فهمهم الذاتي الجامد للنص الديني، ونموذج المجتمع كما يزعمون محقّقة لدى السلف الصالح.

وفي إعادة صياغة منظومة قيم التقدم لمجتمع معين أو مجتمعات معينة، تبرز معضلة الوحدة والتنوع، أو العالمية والخصوصية، في مضمون القيم، وتبقى إشكالية الثابت والمتغير، أو العامل المحدد والعوامل التابعة، في ترتيب القيم، كما تتفاقم صعوبة خيار آليات التقدم بسبب حالة (اللا أدريه) أو عدم التأكد في فترة الانتقال التاريخي الجذري الراهنة
إذ تتداعى التصورات الجامدة مثل فكرة الاشتراكية السوفييتية، لكن قيمة العدل الاجتماعي تظل ثابتة، وتتهافت الوصفات الجاهزة مثل دعوة الليبرالية الغربية، لكن إلغاء السوق في هذا الظرف التاريخي غير ممكن، وتثمر الأصولية الدينية نظم طغيان وحركات إرهاب، لكن القيم الأخلاقية في المبادئ الدينية كالصدق والاستقامة، تبقى قائمة، وتبرز وحشية الصراعات الإثنية كما حدث في البوسنة والهرسك وفي إفريقيا على سبيل المثال، لكن الهوية الثقافية والانتماء القومي والإثني وغيرها لا تنفي حقيقة المصير المشترك للإنسانية.. إلخ.

إن منظومة قيم التقدم في شمولها وتطورها، لابد أن تتجاوز قصور جميع التصورات السابقة، وهو القصور الناجم أساساً عن نظرة أحادية جامدة إلى منظومة القيم الإنسانية، والأمر أن هذه النظرة تجعل أصحابها يُعلون إحدى تلك القيم مثل الحرية أو العدل أو الهوية.. إلخ، وينكرون أو يتجاهلون أو يهوّنون من شأن ما عداها من قيم التقدم.

وإذا كان يمكن تفهم المبررات التاريخية، الموضوعية والذاتية، لمثل تلك النظرة الواحدة إلى التقدم، فإنه لا ينبغي- حسب رأيي- تجاهل ضرورة إعادة صياغة مفهوم التقدم في ظل الظروف الراهنة، التي قلبت الكثير من الثوابت السابقة، هو منظومة التقدم الشامل، وقد ارتقى مضمونها، بحيث تجسد ما هو عام من الخبرة الإنسانية، وما هو خاص من الخصوصية المجتمعية
وتستبعد هذه الصيغة للمفهوم مثالب أحادية النظر إلى التقدم، باعتباره ارتقاءً لأيٍّ من هذه الأبعاد المترابطة للتقدم، كما تنطلق إعادة صياغة  المفهوم من التسليم بقصور نظرية العوامل، التي تتصور التقدم نتاج الارتقاء بأحد عوامله، بيد أن منطق التقدم يكشف تاريخياً ويؤكد نظرياً أمرين أساسيين، أولهما أن ثمة علاقة مسببة متبادلة بين مختلف أبعاد التقدم، بمعنى أن كلاً منها سبب ونتيجة لغيره في آن واحد، وثانيهما أن ثمة ضرورة موضوعية لتحديد العامل المحدد أو الرافعة الرئيسية في عملية التقدم.

ولا شك في تبدل أولويات التقدم وآلياته عبر الزمان والمكان، ويعني هذا بالضرورة قبول التكلفة أو التضحية المترتبة على خيارات المجتمع المعني أو المجتمعات المعنية.. وفي ظل رؤية نظرية شاملة، فإن الانطلاق من المعطيات الواقعية والمقتضيات العملية يمثل شرط تنفيذ سياسات التقدم وبرامجه، بأقل كلفة وأعلى عائد وأسرع وقت..
وعلى الرغم من سقوط أوهام الوصفات الجاهزة التي توهم أصحابها صلاحياتها لجميع المجتمعات، وعلى الرغم من حقيقة تمايز البلدان، بما فيها البلدان العربية مجموعات وفرادى، فإن تحقيق التقدم يفترض أن يتحقق وفق منطق عام.

ويتلخص هذا المنطق في ترتيب للأوليات ينطلق من أن التقدم الاقتصادي وارتقاء الإنتاجية والقدرة التنافسية، هي مقدمات للتقدم الاجتماعي، فالتنمية الاقتصادية والتنمية البشرية، ركيزتا ارتقاء الديمقراطية والتقدم السياسي، وضمانتان لجوهر التطور الديمقراطي، أي سيادة القانون، والتداول السلمي للسلطة.. وبغير ما سبق يستحيل تنظيم القدرة الشاملة للازمة لحماية الأمن القومي
على مستوياته المحلية والإقليمية والعالمية، كما يصعب ازدهار الهوية الثقافية للأمة المعنية بوجهها الإنساني الحضاري.

إن العامل المحدد القائد والحاكم لصيرورة التقدم إذاً هو التقدم الاقتصادي، وذلك انطلاقاً من الافتراض السابق بأن التأخر الاقتصادي بمعناه الواسع هو سبب الأسباب وراء التهديدات الاجتماعية والسياسية والأمنية والحضارية وغيرها فيما يجابه تلك البلدان.

مقياس التقدم الاقتصادي

 يكشف تحليل مستويات التقدم الاقتصادي وعلاقات القوة الاقتصادية على الخريطة العالمية عن حقيقة أن القدرة الاقتصادية لم تعد رهناً بمجرد كمية ونوعية الموارد الاقتصادية التي في حوزة الدولة أو تحت سيطرتها.

والأمر أن التنمية الاقتصادية والقدرة الاقتصادية متغيرات لم تعد مقيدة بضم المزيد من المدخلات التي تتسم بالندرة النسبية، من التكنولوجيا والعمالة والمواد الأولية اللازمة لإنتاج السلع والخدمات. إذ يتراجع وإن نسبياً أثر تعظيم الاستثمار، أو التنمية الأفقية، ويزداد دور الارتقاء بالكفاءة الاقتصادية ورفع إنتاجية العمل والإنتاجية الكلية لعناصر الإنتاج في بلوغ التقدم الاقتصادي، ويتوقف على ما سبق تحقيق طموح الدولة للمنافسة الظافرة في السوق العالمي وتجاوز قيود السوق المحلي الضيق وإن نسبياً، وبناء أسس التكافؤ في علاقات الاعتماد الدولي المتبادل، وإقامة ركائز النمو المتواصل والرفاهية المتعاظمة، وتجاوز مأزق نضوب الموارد وما قد توفره من رفاهية ريعية متناقصة ومتآكلة.

وكما تؤكد خبرة سقوط القوة العظمى السوفييتية وواقع التدهور النسبي للقوى العظمى الأمريكية، وحصة النجاح الاقتصادي في شرق آسيا، فإن الارتقاء المتواصل بإنتاجية العمل لبلوغ أعلى مستوياتها العالمية، يمثل الحلقة المركزية لتسريع  التنمية الاقتصادية وتعظيم القدرة الاقتصادية، بمضاعفة معدل النمو الاقتصادي والفائض المتاح للاستثمار
ويمثل ارتفاع الإنتاجية سبباً ونتيجة لعدم التأخر عن الموجات الأحدث للثورة الصناعية التكنولوجية والثورة العلمية التقنية، بل والمشاركة في قيادتها والارتقاء بها، وربما يجب أن نشير هنا إلى أن تحقيق هذه الأهداف يقتضي وضع سياسات وبرامج وطنية، وربما خطوات، على طريق التكامل الإقليمي، وتنفيذها ، فضلاً عن ضرورة  الانفتاح على العالم الصناعي المتقدم وإيجاد وتطور آليات التعاون معه، وذلك لتطوير محددات الإنتاجية ورفع مستواها.

وبين محددات الارتقاء بإنتاجية العمل وغيره من عوامل الإنتاج تبرز ضرورات مضاعفة الاستثمار في استيعاب وتطوير المنجزات الأحدث للثورة العلمية – التقنية، والثورة التقنية – الصناعية، وتطوير برامج وطنية للنهوض بالتعليم والتدريب، والبحث العلمي التكنولوجي، وتغيير آليات تسيير الاقتصاد بما يقلص التكلفة، ويزيد العائد على أساس التخصص الأمثل للموارد
وتحديث أساليب إدارة المشاريع وتنظيم العمل، وتوسيع السوق المتاح لتمويل التوسع في الإنتاج إلى جانب توسيع أسواق تصريف السلع والخدمات، وتنويع الموارد عبر التكامل الإقليمي على أسس تبادل المنافع، وإعلاء قيمة العمل المنتج.. إلخ، وفي ضوء تنفيذ هذه السياسات والبرامج ومؤشرات الأداء الاقتصادي، ينبغي التقييم، وبالتالي تطوير الدور الاقتصادي للدولة والتوجه الخارجي للتنمية.

 

العدد 1104 - 24/4/2024