حروب التجارة

في كانون الثاني من عام 1995، بدأت منظمة التجارة العالمية عملها كحارسة، وراعية لانسياب السلع والخدمات بيسر وسهولة بين دول العالم، وبعد جولات متعددة من المفاوضات والاتفاقات الملزمة لجميع الأعضاء، وُضعت القوانين والنصوص التي تُلزم الأعضاء بفتح أسواقها أمام السلع المتدفقة إليها عبر تعرفة جمركية تخفض تدريجياً،
وإزالة القيود الكمية عبر مفاوضات متعددة الأطراف، وجرى أيضاً توقيع الاتفاق الخاص بالقواعد التي تحكم النزاعات التجارية، التي تنشأ في معرض تطبيق بنود بقية الاتفاقيات، وبحكم الحجم الهائل للتجارة الأمريكية والأوربية واليابانية، فقد سيطرت هذه الدول على سياسات منظمة التجارة العالمية،
بما يحقق في النهاية مصالحها الاقتصادية، رغم الخلافات التي تنشأ فيما بينها أحياناً، وبعض الحروب التجارية التي تنشب أحياناً أخرى، والتي تتسبب بإشعالها الشركات العملاقة، وتندفع بعد ذلك الحكومات للدفاع عن شركاتها، مهدِدة بإجراءات تهدد بنسف جميع الاتفاقيات  والتفاهمات.
(يصنعون السياسة من المال)- هكذا وصف الدبلوماسي العتيق (ويليرد ستريت) السياسة الأمريكية خلال القرن الماضي، إنها تقوم على اعتبارات تجارية، وتركّز على حماية المصالح الاقتصادية، تحت ستار الحرص على السلام، والديمقراطية، ومكافحة التطرف.
ومنذ ثمانينيات القرن الماضي حذت الدول الرأسمالية الأخرى حذو الولايات المتحدة، وأصبحت مستعدة للدخول في حروب تجارية، لمصلحة شركاتها الكبرى، واستمرار سيطرتها على قنوات التجارة العالمية والأسواق الدولية.

إن الكثير من الشركات المتعددة الجنسية في العالم، تعادل بالحجم والقوة المالية دولاً بأسرها، ومصلحتها في الاقتصاد العالمي الجديد الذي صنعته الليبرالية الجديدة تفوق مصالح دولها، وحين تصطدم مصالح الطرفين، فإن الأولوية تصب في مصلحة الشركات لا في مصلحة الدول، (راجع –  السيطرة الصامتة – نورينا هيرتس ص 95).

تفصل منظمة التجارة العالمية في النزاعات بشكل سري، وقد أصدرت أحكاماً ضد دول نامية وأخرى متقدمة، لكن الشعور العام لدى مندوبي الدول المشاركة وعددها حتى الآن   139 دولة، أن هذه المنظمة لا تكيل دائماً بمكيال واحد.

في منتصف تسعينيات القرن الماضي، نشبت حرب الموز الكبرى عندما قرر الاتحاد الأوربي أن يمنح كوتا (حصة) تقل عن 10%  لاستيراد الموز من شركة (شيكيتا) الأمريكية المتعددة الجنسية، وذلك لحماية منتجي الموز الصغار في المستعمرات الفرنسية والبريطانية في إفريقيا والبحر الكاريبي،
وهي بلاد تعتمد في بقائها على تصدير الموز، لقد أقنعت شركة (شيكيتا) ممثلي التجارة الأمريكية أن هذا الإجراء يضر بمصالح الولايات المتحدة، إذ يؤدي إلى خسارة ثلاث شركات كبرى للفواكه (شيكيتا – دول – ديلمونت) مبلغاً يعادل 520 مليون دولار سنوياً،
وهكذا تقدمت الحكومة الأمريكية باحتجاج إلى منظمة التجارة العالمية، بالنيابة عن شركاتها!  واتهمت الاتحاد الأوربي باتخاذ مسلك تحيّزي في استيراد الموز، وهددت بفرض ضريبة جديدة تعادل 100% على عدد من المنتجات الأوربية، من الخمور، والقمصان الإسكتلندية، والتجهيزات المنزلية الإيطالية، إذا لم تعدل النسبة المخصصة لشركة الموز الأمريكية،
وفي عام 1999 اتخذت المنظمة قراراً بتعديل الحصة المخصصة لشركة الموز الأمريكية، لكن الاتحاد الأوربي رفض تنفيذه، مما دفع الولايات المتحدة لفرض ضرائب انتقامية على وإرداته من أوربا بلغت  191 مليون دولار (راجع مجلة التجارة العالمية – شباط 1999).

لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا:
هل كان باستطاعة (كارل ليندنر) مالك شركة (شيكيتا) الاعتماد على حماس المسؤولين الأمريكيين في حرب الموز، لولا المبالغ التي دفعها كتبرعات طيلة فترة المناوشات، والتي بلغت أربعة ملايين ومئتي ألف دولار للحزب الجمهوري، ومليون وأربعمئة ألف دولار للحزب الديمقراطي؟!

في عام 1996 صوَّت الاتحاد الأوربي على منع تصنيع الهرمونات الاصطناعية من لحم البقر، إذ ثبت أنها تتسبب بمرض السرطان والإقلال من خصوبة الذكور، لكن شركة الكيماويات الزراعية الأمريكية (مونسانتو)، واتحاد أصحاب قطعان البقر الأمريكي، وهم بالمناسبة من متبرعي الحزبين الرئيسيين في أمريكا،
مارسا الضغط على الإدارة الأمريكية لتقديم شكوى إلى منظمة التجارة العالمية، بذريعة تقلص الاستيراد من أمريكا نتيجة لقرار الاتحاد الأوربي، وقد صدر قرار من لجنة تحكيم المنظمة لصالح الأمريكيين، وعندما رفض الأوربيون تنفيذ القرار،
خولت منظمة التجارة الولايات المتحدة وكندا فرض عقوبات تجارية انتقامية  تجاوزت 125 مليون دولار، وبشكل مفاجىء خضعت صادرات أوربية مثل عصير الفواكه، والخردل، وأجبان روكفورت لضرائب جمركية كبيرة (راجع صحيفة الغارديان 30 تشرين الأول 1999– السيطرة الصامتة – نورينا هيرتس).

لقد أصبح واضحاً أن حكومات الشركات العملاقة تقيّم سياستها التجارية استناداً إلى المصلحة التي ستجلبها لصالح هذه الشركات، وبدلاً من سعي هذه الحكومات لخلق عالم أفضل لشعوبها، تسعى إلى إيجاد بيئة مثالية لعابري القارات التجاريين الذين يديرون الظهور لمساندة حكوماتهم،
إذا ما أرادت تحسين الوضع المادي والاجتماعي للشعوب، وكما قال (كليف آلن)  نائب الرئيس التنفيذي لشركة (نورتل نيتورك)  الكندية :
لأننا ولدنا هناك (في كندا) لا يعني أننا سنظل هناك، يجب ألا يشعر الكنديون بأنهم يمتلكوننا، يجب أن يظل المكان جذاباً  لنا،  لنظل مهتمين بالبقاء فيه (راجع المصدر السابق).

ورغم أن الدول النامية تشكل 80% من أعضاء منظمة التجارة العالمية، إلاّ أن هذه الدول تُعامل وكأنها من الدرجة الثانية، فقد استُبعِد معظم وزراء التجارة في هذه البلدان من المرحلة النهائية من مفاوضات الأورغواي عام 1993، وتوسلوا إلى الصحفيين الذين حضروا جانباً من هذا الاجتماع لكي يخبروهم عن آخر مجريات المفاوضات!

إن ثلاثين دولة نامية من أعضاء المنظمة لا يستطيعون وضع ممثل لكل منهم في مقر المنظمة في جنيف لارتفاع تكاليف الإقامة…!

في النهاية، هل يمكن اعتبار منظمة التجارة العالمية جهازاً لحراسة التجارة العالمية، أم أداةً لسيطرة الشركات الكبرى متعددة الجنسيات على التجارة الدولية، ولو أدى ذلك إلى التضحية بمصالح دول بأكملها؟

لقد قدمنا بعض القرائن من الماضي القريب، ومن يراقب يجد الكثير منها  في حاضرنا، أما المستقبل، فربما يوضح لنا الصورة أكثر  في سورية، بعد قبول المنظمة انضمامنا إليها.

 


<!–
var prefix = 'ma' + 'il' + 'to';
var path = 'hr' + 'ef' + '=';
var addy94129 = 'basharmou' + '@';
addy94129 = addy94129 + 'gmail' + '.' + 'com';
document.write('‘);
document.write(addy94129);
document.write(‘
‘);
//–>n
<!–
document.write('‘);
//–>
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

<!–
document.write('’);
//–>

العدد 1107 - 22/5/2024