ليس الدين فقط أفيون الشعوب

ربما كان قول الفيلسوف والاقتصادي الألماني كارل ماركس، مؤسس النظرية الماركسية: (الدين أفيون الشعوب)، صحيحاً من حيث أنه تنويمٌ وتخدير واستسلام، وإطاعة البعض بشكل أعمى بلا بصر ولا بصيرة، لما يمليه عليهم الدين من تعليمات ووصايا ونصوص وفتاوى دون تشغيل العقل ودون محاولة التفكير بصحتها أو عدم صحتها، وعدم العمل بما يتلاءم مع التفكير العلماني الذي يفيد في تطوير المجتمع اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وعلمياً، وبالتالي حضارياً من كل النواحي.

ولكن هذا القول لم يكن وحيداً أو سبباً دائماً في النزاعات المحلية والإقليمية والعالمية بين الشعوب بصراعاتها الداخلية أو الخارجية، فمن مراجعة أسباب النزاعات التي حدثت سابقاً وتحدثُ الآن، نجد أن الدين والطائفية ليس لها علاقة في بداية الحدث في أي نزاع، بل كانت النزاعات هي بسبب المصالح الاقتصادية والمادية، وبسبب الصراع على السلطة بين فئات متنافسة، وتسعى هذه الفئات بعد ذلك لتأليب الناس، مستغلةً الدين والطائفية في مساعدتها ومناصرتها ضد الطرف الآخر، ويعد حصول الخلاف أصلاً بعيداً عن الدين والطائفية.

 إذاً في أغلب الصراعات والنزاعات لم يكن الدين هو سبب الخلاف، بل دائماً يكون المجتمع عبارة عن خليط متوافق ومتضامن من الأديان والطوائف والقوميات يعيشون معاً بانسجام واستقرار، إلى أن يحدث النزاع حول المكاسب الاقتصادية أو السلطوية، فيصير الخلاف والاختلاف والصراعات.

ولذلك نجد أن الأقطار العربية المكونة للوطن العربي، هي على خلاف دائم فيما بينها سياسياً واقتصادياً، بسبب عدم التفاهم بين الحكومات والسلطات العربية، لعدة أسباب، ولم يكن الدين أبداً من أسباب هذا الخلاف عبر التاريخ العربي، حتى إذا أخذنا الدين الإسلامي كنموذج نجد أنَّ الخلاف في بداية الدعوة الإسلامية كان لا بسبب رفض الدين الجديد، بل كان بسبب الصراع على النفوذ بين القبائل العربية في تلك الفترة، تلك القبائل التي رأت في الدين الجديد ما يعيق ويحدد مصالحها الاقتصادية والسلطوية كقبائل وكأشخاص يتنافسون على الزعامة، وهكذا استمر هذا الخلاف على السلطة السياسية والاقتصادية حتى وقتنا هذا، مع أنَّ تلك القبائل وأصحاب النفوذ كانوا يتبعون الدين نفسه، إنَّما لم يستطع الدين الواحد توحيدها، وبالتالي لم يستطع الدين الواحد توحيد الأقطار والبلدان العربية المتصارعة دوماً على المكاسب المادية والسلطوية، وأغلبها صراعات شخصية لقادة متنفذين يجرُّون معهم المجتمع بأكمله للصراع. في فلسطين وعلى سبيل المثال أيضاً لم يكن الصراع يهودياً إسلامياً، بل كان بين الفكر الصهيوني (المدعوم من أطراف يهودية ومسيحية وإسلامية لها مصلحة مع الصهيونية)، وحركة التحرر الوطني الفلسطيني (المكونة أيضاً من كل الأديان والطوائف)، إذاً هنا موضوع الدين لم يكن محل اختلاف ولا محل توافق، بل على العكس كانت القيادات الفلسطينية تختلف فيما بينها، وما زالت تختلف حتى الآن على المكاسب والميزات والمناصب والمصالح الفردية، قبل اختلافها مع العدو الصهيوني، وهذا ما أخر حل المشكلة الفلسطينية، أكثر مما أخرتها التصرفات العدائية الصهيونية.

حتى في الحملات الصليبية لم يكن في بادئ الأمر أي خلاف عقائدي ديني بين المسلمين والمسيحيين، حتى بعد أن استولى المسلمون على الأماكن المسيحية المقدسة في فلسطين، بل كانت أهم أسباب تلك الحروب الصليبية هي اقتصادية في أغلبها، واستُخدمت ذريعة الدين وذريعة إعادة بيت المقدس من المسلمين، أما من أسبابها الحقيقية فهي أنْ وجدَ فيها البعض من الأوربيين فرصتهم بالانخراط فيها للحصول على أراض وأملاك في الشرق، ورأى آخرون فيها فرصة لتوسيع أملاكهم بضم أملاك جديدة، كما كان الفقراء في أوربا يجدون فيها فرصة لحياة جديدة أفضل ووسيلة تخرجهم من حياة العبودية التي كانوا يعيشونها في ظل نظام الإقطاع السائد في ذلك الوقت، واستغلها تجار المدن الساحلية الأوربية في تحقيق مكاسب مادية تجارية مقابل نقلهم المحاربين على سفنهم. تلك بعض الأسباب البعيدة عن النزاع الديني هي التي كانت تساهم في استمرار الحملات الصليبية وتأجيجها لقرنين كاملين من الزمن.

كذلك لم يكن ما كان يسمَّى (داعش) إلا نموذجاً واضحاً لاستغلال الدين والترويج له، مع أنَّ غاية داعش وأهدافها لم تكن دينية أبداً، بل كلنا يعرف إن قادتها استغلوا الفوضى الحاصلة في منطقتنا، للاستيلاء على الأرض والثروات وخلق الزعامات الفردية باستخدام نداءات وفتاوى دينية هي تشويه للدين الإسلامي الحقيقي وبعيدة كل البعد عن نصوصه القرآنية وعن الأحاديث النبوية الصحيحة.

وبذلك تبقى المصالح السلطوية الشخصية والسيطرة المادية هي أفيون الشعوب، بذريعة الدين، قبل أن يكون الدين نفسهُ هو أفيون الشعوب.

العدد 1107 - 22/5/2024