كيف ينظر الأميريكيون إلى الخروج البريطاني..؟

 من المعروف تاريخياً للجميع أن بريطانيا ظلت لسنوات طوال تابعة للولايات المتحدة، وشكلت رأس الجسر الممتد عبر ضفتي الأطلسي لعبور واشنطن إلى قلب أوربا، وكانت لندن وستظل إلى أجل غير مسمى أقرب وأهم حليف أمريكي في القارة العجوز وفي العالم، فقد قام التحالف الاستراتيجي الراسخ بينهما على أرضية صلبة من المصالح والثقافة واللغة والتوجهات السياسية المشتركة.

إن هذا التطابق يفسر الاهتمام الأمريكي غير العادي بالاستفتاء الذي أجري في بريطانيا، وانتهى بموافقة الأغلبية على الخروج من الاتحاد الأوربي،  فواشنطن لم تعتبر الاستفتاء قبل ظهور النتيجة وبعدها شأنا بريطانياً داخلياً، بل قضية مصيرية تتعلق بمصالحها وأهدافها الوطنية، ولم تُظهر اهتمامها بالاستفتاء فحسب، بل عبرت عن موقف محدد قبل أن يجري وهو تأييدها لبقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوربي، ولم يقف الرئيس أوباما على الحياد، أو حتى يتظاهر به، من قبيل المواءمات الدبلوماسية، بل جاهر بتأييد استمرار عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوربي معللاً ذلك بأنه يعطي ثقة أكبر لبلاده في التحالف عبر الأطلسي، ويجعل العالم أكثر أمناً ورخاء حسب زعمه.

بالطبع، لم يكن موقف أوباما هذا وليد انفعال عاطفي ودعماً للوحدة الأوربية، ولكنه كان انعكاساً حقيقياً لرؤية بلاده لمصالحها، وتعبيراً عن مخاوفها من عواقب الانفصال البريطاني عن الاتحاد الأوربي، تشعر واشنطن بالقلق إزاء مستقبل علاقتها وتعاونها مع الاتحاد، وقوة نفوذها داخله بعد خروج أهم حلفائها منه، كما تشعر بقلق له ما يبرره على مستقبل الاقتصاد الأوربي والعالمي نتيجة لهذه الخطوة البريطانية.

هذا وتشكل المخاوف الأمريكية وجهاً واحداً لأسباب اهتمام الأمريكيين بالاستفتاء ونتائجه، بينما بقي جانب آخر لا يقل أهمية وهو تأثير النتائج في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ستجري في شهر تشرين الثاني المقبل.. الانطباع الذي انتشر سريعاً، وهو أن المرشح الجمهوري (ترامب) سيكون الفائز الأول في الاستفتاء على ضوء أوجه الشبه العديدة بين حملته الانتخابية وحملة المؤيدين لخروج بريطانيا والاتحاد الأوربي وبالتالي، فإذا كان هؤلاء قد فازوا فلماذا ألا يفوز هو؟

ويسوق أصحاب هذا الرأي حججاً، منها أن الجانبين أي (ترامب وأنصار الخروج البريطاني) كلاهما يمثل صيحة احتجاج وتمرد على ما يعرف اصطلاحاً باسم (المؤسسة) وهو تعبير يشير إلى النخبة الحاكمة والمتحكمة والأفكار التقليدية المهيمنة في المجتمع، والقبضة القوية للدولة في ممارسة سياستها وهيمنتها وفرض سلطاتها ووجودها الثقيل. ومن الحجج أيضاً، قولهم إن الناخب البريطاني صوّت في الواقع على رفض الحدود المفتوحة، وضد المهاجرين واللاجئين، وهي التوجهات نفسها التي يتبناها (ترامب). وهناك ملاحظة مهمة أخرى فيما يتعلق بأوجه الشبه بين الجانبين وهي أن الشرائح الاجتماعية والعمرية والثقافية التي حسمت نتائج الاستفتاء البريطاني لصالح الخروج، هي ذاتها الشرائح التي تمثل الكتلة التصويتية الصلبة (لترامب)، وتتكون في أغلبها من الرجال البيض والمحافظين والأقل تعليماً ودخلاً. وإذا كانت الاستطلاعات لا ترجح حالياً فوز (ترامب) في الانتخابات، فإنها لم ترجح أيضاً فوز تيار الانفصال أو الاستقلال كما يسمون أنفسهم في بريطانيا (قبل التصويت).

إذاً (ترامب) في طريقه إلى البيت الأبيض كما يقول أنصاره، غير أن هذا المتوقع يبدو متسرعاً، ولا يمكن التسليم به لمجرد توافر بعض أوجه التشابه بين الجانبين، ولو كانت فرصه أفضل الآن، وقدرة الجمهوريين على عرقلة ترشيحه تتآكل إلى حد كبير.. على آية حال، أمريكا ليست بريطانيا، ولا يعني التصويت لصالح الانفصال هناك فوز (ترامب) تلقائياً، كما أن الاستفتاء البريطاني ليس في صالحه لأن تداعياته ستكون حاضرة أمام الناخب الأمريكي في تشرين الثاني المقبل.

العدد 1105 - 01/5/2024