الموازنة السورية والرؤى المستقبلية

 القراءة العقلانية لأي موازنة تنطلق من معايير تتعلق بآلية توزيع المبالغ فيها بين الجاري والاستثماري، ومقارنتها بموازنة العام السابق، وكذلك حجم الموازنة من الناتج المحلي الإجمالي. وبالمحصلة فالموازنة العامة للدولة هي مختلفة عن الميزانية التي تعني أعمالاً نفذت وطبقت وتجري جدولتها رقمياً. فالموازنة هي رؤية الحكومة للسنة القادمة، وبالتالي هي عبارة عن توقع لما يمكن تحصيله من رسوم وضرائب وفوائض، مضافاً إليها الإيرادات الحكومية المختلفة، وكيفية توزيع هذه الإيرادات بما يتناسب مع ما تسعى الحكومة له، سواء من حيث زيادة الاستثمارات أو تحسين المستوى المعيشي والخدمي. وبالتالي هناك شقان للموازنة: جاري، واستثماري، ويجب ملاحظة أن الموازنة تتعلق فقط بالجانب الحكومي، ويبقى الجانب الآخر للاستثمار الخاص بمختلف أشكاله.

القراءة الحقيقية الواقعية هي قراءة رقمية مقارنة تنظر إلى زيادة الأرقام مقارنة بسعر صرف الدولار، وكذلك وفق القوة الشرائية وسط المستوى العام للأسعار، وهنا يتدخل الوضع النفسي لتقييم الأسعار في السنة التالية من منظار التفاؤل أو التشاؤم وفق سيرورة تاريخية للسنوات السابقة وسط ظروفها وللسنة القادمة. وقد قدرت الموازنة الحالية بحوالي 3 آلاف مليار ليرة سورية، أي حوالي 6 مليارات دولار، بسعر صرف حوالي 500 ليرة سورية وبالتالي هي تزيد عن الموازنة السابقة (التي قدر فيها سعر الدولار ب 515 ليرة) بحوالي 15 % والتي كانت تقدّر بحوالي 5,6 مليارات دولار وقابلة للزيادة أكثر في ظل آفاق مرئية لتحسن سعر الصرف، وهذا يعني أن الموازنة ليست انكماشية علماً أن الاقتصاد يسمى منكمشاً بعد ستة أشهر من النمو السلبي، والموازنة تعد في حال تخفيض حجمها سواء بالمبلغ العام وإن أردنا المقارنة بمستوى سعر الصرف. إن الموازنة الحالية جاءت في وقت الإحاطة بجزء من مفاعيل الأزمة الاقتصادية وزيادة الطاقات الإنتاجية بتحرير مدن وأراضي ستضاعف الطاقات الإنتاجية، وقد لوحظ تخصيص أموال كبيرة لإعادة الانطلاقة الإنتاجية سواء من حيث ترميم ما سبق أو إضافة طاقات جديدة في الزراعة والصناعة والخدمات السياحية. فقد استحوذت وزارة الصناعة على القسم الأكبر من الموازنة، وقد ألمح رئيس الوزراء إلى أن موازنة الصناعة مفتوحة لتمويل معامل أو ترميم أو استكمال أخرى، ولو وصل إلى مبلغ 300 مليار ليرة سورية. وهي بالمحصلة يمكن عدها في حال الالتزام بها وتنفيذها مبالغ استثمارية لمشاريع واقفة عن الإنتاج، وبالتالي سينجم عنها موارد إضافية وسلع تخفف من الحاجة إلى الاستيراد وتخفف من البطالة المقنعة في القطاع العام، بينما بلغت الاعتمادات لوزارة الزراعة 17,8 مليار ليرة لدعم مؤسسات المباقر والدواجن والبحث العلمي وإكثار البذار، ما سيوفر مليارات على الحكومة، مع ملاحظة أن قطاع الزراعة يحتاج إلى دعم وتدخل حكومي إضافي لتوفير مستلزمات الإنتاج من أسمدة وبذار وأدوية، في التوقيت المناسب والأسعار المناسبة. وكذلك كانت حصة قطاع الكهرباء 45 ملياراً لتأمين الطاقة اللازمة للمشاريع الإنتاجية وتوفير الكهرباء بشكل أكبر، ما سينجم عنه زيادة ساعات الإنتاج بمختلف أنواعه وبالتالي يزيد الطاقات الإنتاجية. وكذلك قطاع النقل والتموين خصصت الاعتمادات للاستثمار الأكبر والأكثر فاعلية لأسطول النقل البري والبحري وللصوامع، وقد زادت المبالغ المخصصة للدعم الاجتماعي بحوالي 400 مليار ليرة لتصبح 750 ملياراً، وهي زيادة جيدة مع ضرورة العلم بالحاجة الكبيرة إلى هذا الدعم لأغلب الشعب السوري سواء للنازحين أو للفقراء أو لمخرجات الأزمة المعقدة في ظل الانعكاسات الاجتماعية للأزمة، وفي ظل تجهّز الحكومة لعودة جزء كبير منهم، ويشمل ذلك ذوي الشهداء، والخدمات الصحية المتزايدة نتيجة الإعاقات المختلفة والأمراض الناجمة عن الأزمة المعقدة، وكذلك تتكلم الحكومة عن دعم الخبز وما تتناقله عن دعم المحروقات وغيرها من الإعانات الاجتماعية، وكان حجم الاعتمادات الاستثمارية نحو 825 مليار ليرة سورية، وهي أخذت بعين الاعتبار دور القطاع الخاص بإعادة الإعمار والشركات الأخرى، مع مخصصات وزارة الصناعة لإصلاح ما تأثر بالحرب، وقد خصص حوالي 4,5 مليارات لذوي الشهداء، مع ملاحظة قلة المخصصات للتعليم والصحة وهذا يدل على استمرار الحكومة في سحب يدها من الكثير من القطاعات، والاعتماد على القطاع الخاص الذي لم يصل إلى عقلية المنتج والخدمة الجيدة والسعر المناسب أو المنافسة الحقيقية بالمنتج وما زال الكثير منه يعتمد على تقديم الخدمة له بتقليم أظافر القطاع العام أو الخدمة العامة. وقد كان لكبر حجم الاعتمادات الجارية ضرورة في ظل مفاعيل الأزمة وتأثيراتها.

وتبقى هذه خططاً يلزمها الكثير من العمل لجعلها أمراً واقعاً يحقق ما وضع له، وتبقى هذه الأعمال التي تعلن الدولة عن القيام بها، ويبقى ما ينفذه القطاع الخاص، الذي يتوقع أنه- حسب الحالة الأمنية وما نراه لنهايات الأزمة المعقدة- في تزايد لأخذ الدور المنوط به في مختلف القطاعات ومنها ما يتعلق بإعادة الإعمار. وبالتالي فالنظرة التفاؤلية لم تنطلق من خيال وإنما من وقائع ووصف الموازنة بأنها ليست انكماشية كان نتيجة دراسة الواقع المعيش ومؤشراته خلال الشهرين السابقين وبالتالي يمهد للانطلاقة الصحيحة بعد الاحتواء يجب توسيع مشاركة القطاع الخاص وفق معايير وطنية، لذا يجب أن تترافق الموازنة ببرنامج حكومي تنموي مدعم بقرارات تحرض الرساميل الخاصة المكتنزة والأموال التي هاجرت والتي من دونها ستكون الانطلاقة الاقتصادية بطيئة، وكذلك التركيز على الإدارة النقدية لسعر الصرف بشكل ينعكس على المستوى المعيشي للمواطنين، مع زيادة مخصصات وزارة التموين وحماية المستهلك للتدخل الإيجابي، وخاصة أنه لم نلحظ في الموازنة رصداً كافياً لزيادة الرواتب باستثناء الترفيعة الدورية للعاملين المقدرة ب9 %. بشكل عام الموازنة تساير حالة الأمان التي سادت وتطلق بواعث للانطلاقة الاقتصادية بأذرع ونوايا الحكومة وفق رؤية وبرنامج تنموي داعية للتفاؤل، ونبقى بانتظار التطبيق الواقعي لما خطط له لأن التطبيق هو الأساس لمخططات ورؤى مستقبلية، وإن عدم رصد الأموال لأي زيادة في الرواتب والأجور يضع الحكومة أمام خيار تحسين معيشة المواطن عبر ضبط الأسعار وإعادتها إلى ما يحسن معيشة المواطنين، مع متابعة سعر الصرف الذي عقد متابعي سياسات المركزي اتجاهه والتي تتمثل بتثبيته أعلى من سعر السوق البديل أو السوق السوداء، وسط تعجب الأغلبية عن هذا السلوك الذي يحابي القلة على حساب أغلب الشعب.

إن تحسين معيشة المواطنين ضرورة حتمية مكافأة للدماء ولسد الفجوة الكبيرة بين مستلزمات المعيشة ومتوسط الأجور، وهي بلغت حوالي 250 ألف ليرة سورية (فوسطي الأجور 26 ألف ليرة سورية، ومتوسط المصروف الشهري لأسرة من 5 أشخاص حوالي 275 ألف ليرة سورية)، كما أن تفعيل كل الطاقات الإنتاجية سيكون نتيجته الوصول إلى ما نريد، وسط استمرارية التحكم بما يلزم وضرورة الحد من الاستيراد، وتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، والنظرة التفاؤلية ستتحقق في ظل وجود النية والإرادة والمتابعة والمحاسبة.

العدد 1107 - 22/5/2024