الإصلاح الإداري… في الملتقى التفاعلي

كانت الندوة الخامسة لملتقى الثلاثاء الاقتصادي التفاعلي الحادي عشر الذي تقيمه جمعية العلوم الاقتصادية فرع اللاذقية بعنوان الإصلاح الإداري، وهو اختيار صائب في وقت بدأ باستنهاض الاقتصاد تماشياً مع قرب انتهاء الحرب المعقدة وما نجم عنها من انعكاسات كبيرة على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإدارية، وقد أدت الأزمة إلى تراكمات ثقيلة تضاف إلى ما كان سابقاً من تراكمات نتيجة اختيارات خاطئة سواء في الإدارة بشكل خاص أو في أسلوب الإدارة الاقتصادية بشكل عام، مما أدى إلى تفاقم الفساد وتهشيم للبنيان الصلب الذي وصلنا إليه بعد تضحيات وجهود وأموال وسياسات أكثر صوابية. وجاءت الأزمة التي عولجت من طرفين بأسلوبين متناقضين: طرف احتوى تداعياتها بما يستطيع للإحاطة بكل مفاعيلها ولحماية الأرض والدم، مع هدف أكبر من أجله قد يغض الطرف عن بعض الثغرات، ومن ضمن رؤاه الأولى عدم استطاعة المبادرة بالإصلاح الإداري أو مواجهة الفساد وحيتانه الذين لا يوثق بانتمائهم للوطن وإنما للأموال ولمن يتبعون، وبذلك كان التحفظ لضرورات الإدارة الأزموية وما تبعها من حصار اقتصادي وعقوبات ظالمة.

وطرف آخر شعر بما يجول واستشف عدم القدرة على المحاسبة والمواجهة، فاستغل الظروف أسوأ استغلال وتاجر بالدم والعرض والأرض ولقمة العيش، وانتهج نهجاً لا يدل على وطنية وانتماء، وساهم بزيادة الفوضى وتعميم الفساد، ولكن عدم المحاسبة وتأجيل المواجهة لا يعني النسيان وإنما التناسي إلى الوقت المناسب. وبشكل عام كان توقيت إطلاق مشروع الإصلاح الإداري صحيحاً، ودليل تعافي وقدرة، وكان تشخيص الأمراض دقيقاً وواقعياً، وكانت وصفات العلاج وأساليبها صحيحة في حال وجود النية والكوادر، واعتماد أساليب تراعي الواقع والخصوصية، والاستفادة من بعض التطورات العالمية، وهي نقطة مهمة فقد شبعنا ممن يجعلون الغرب هو البوصلة ويسيرون بما يملي ولو خالف الواقع ودمر ما كان صحيحاً وقائماً، وهو ما كان سبب التجارب السابقة أول الألفية وعام 2011. ولكن الوصول إلى ما نحتاج ونريد بحاجة إلى قيادة تنموية نخبوية منتقاة من الأعلى وليس من الأسفل، نخبوية تملك الكفاءة والنزاهة، ومستعدة للمحاسبة في حال وفرت لها الأدوات، وهي تضع برنامجاً زمنياً تحاسب عليه وتكون القائدة لعملية الإدارة التنموية، وقد يكون تشكيل حكومة تكنوقراط تمثيلية حلاً صحيحاً لما نعاني منه، لا حكومة وحدة وطنية كما سوّق البعض. وقد تحتوي حكومة التكنوقراط ملامح تمثيلية وتسير وفق برنامج متفق عليه لأطياف الشعب بعد الوصول إلى رؤى حل سياسي داخلي، وعلى عاتق هؤلاء تقوم أغلب التعيينات وفق معايير مؤسساتية لا كما وجدنا سابقاً، فالمحاباة والواسطة ومحاولة توريط المؤسسات، وقد كانت سياسة التعيينات التي انتهجت قبل الأزمة بما يساير البرنامج الاقتصادي والاجتماعي لنهج الدردرة أحد أسباب الأزمة، وما زالت تداعيات هذه التعيينات مستمرة بالعقلية وبالشخوص، وكلنا يتذكر عندما قيل لديغول: حكومتك مخترقة من المخابرات المركزية الأمريكية! فبحث وفتش ولما وصل إلى من هو المقصود سأله: كيف تعمل ما يخدمهم؟ قال: أعيّن الشخص في المكان غير المناسب، والمهم أن الإصلاح الإداري يتعلق بالهيكليات والصلاحيات والقوانين والتشريعات وكل من هذه يعتمد على ظروف البلد والخطة الموضوعة، وبالنسبة للصلاحيات وأهمها التوزيع ما بين المركزية واللا مركزية، فهي تختلف ما بين وقت السلم والتنمية والبناء، ووقت الحروب والأزمات، وأكيد في الأزمات يصبح التخطيط الأزموي أكثر قرباً واستخداماً للمركزية، لقلة الخيارات ولصعوبة الإدارة الاقتصادية ولقلة الطاقات الإنتاجية وإمكانية تأمين المواد والسلع، عكس العمل في ظروف السلم، وهو ما كان عندنا عكس ما ضلل، فكانت تجارب الإدارات المحلية ناجحة وإن اصطدمت باختيارات لا تمثل أحداً، وأهم أهدافها الفساد، فالتجربة صحيحة وتصوب باختيارات حقيقية، وهذا الموضوع لعب عليه الغرب والقوى التابعة لهم. وبالنسبة للهياكل فهو يعطي خصوصية كل مؤسسة وأهدافها وأسلوب عملها والقوانين جزء منها بحاجة إلى تحديث وتطوير وخاصة بما ينظم العمل ويحمي حقوق العاملين ويوحد أكثر باتجاه قانون واحد. ولكن العامل الأهم في اختياراتنا يجب أن يكون تلازم المفهوم القيمي الأخلاقي بالكفاءة، فكفاءة بلا حامل قيمي أخلاقي لا تنفع، وكذلك قيم وأخلاق بلا مهنية وكفاءة لن يخدم. إن تزاوج هاتين الصفتين هو من أهم علاجاتنا لمرض مزمن في ظل أزمة أخلاقية متراكمة عمل عليها العامل الخارجي عبر غزو ثقافي مبرمج لإضعاف الهوية والانتماء ولعولمة الفساد ولضرب كل القيم الحقيقية البناءة الجامعة وتعميم أمراض الأنانية المفرطة والبعد عن العقلية الاجتماعية والتمرد على المجتمع بكل قيمه، ليصبح المال ولو كان أسود هو أهم معيار، وتصبح السلطة مسعى وهدفاً وليست تكليفاً لخدمة المجتمع. وقد أنتج الترهل البنيوي لمؤسسات التنشئة المختلفة التعليمية والإعلامية والدينية وحتى الأسرة نواة المجتمع، إضافة إلى تخريب منظم مترافق مع تضليل إعلامي، مخرجات أبعد ما تكون عن الانضباط والاحترام والعمل الجماعي. وهذه المخرجات صعبت عملية الاختيار ووضع هذه المؤسسات على سرير الإصلاح السريع الإنقاذي. وكلنا يذكر عندما قيل لتشرشل سقطت لندن، فسأل: كيف التعليم والقضاء؟ فقيل: بخير. فقال: لن تسقط لندن! فكيف لمؤسسات تغلغل فيها الفساد فأصبح عنواناً وأصبحت مولدة لفساد أكبر وأخطر؟!

إن السير بطريق الإصلاح بحاجة إلى استخدام قوة الدولة لفرض القوانين والأنظمة، ولا يمكن ذلك بتغليب أي مركز قوة على قوة سلطة المؤسسات التي أضعف دورها بالتماهي مع العولمة الأمريكية، لسحب يد الحكومات وجعل كل الركائز والصلاحيات لشخصيات مالية سوداء تابعة، فلا قوة من دون المؤسسات، ولا مؤسسات من دون صلاحيات، ولا إصلاح إداري من دون حل سياسي داخلي جامع، ولا حل سياسي من دون تفوق عقلية المؤسسات البناءة الفارضة للقانون والانضباط. وقد كانت تجربة المؤسسات خلال الأزمة وخاصة بمراحلها الأخيرة ناجحة جامعة مريحة وأثبتت قدرتها على أن تكون السند والعون لأي انطلاقة صحيحة بناءة، وأعطت الثقة لأي مواطن وطني يريد العودة القوية والانطلاقة الصحيحة.

الإصلاح الإداري ضرورة وجسر تنموي للعودة القوية، وتلازمه مع السياسي الداخلي حاجة لنجاحه وعبوره المطبات.

العدد 1107 - 22/5/2024