رفع القيود عن التجارة العالمية.. من المستفيد؟

طبعت الليبرالية الاقتصادية الجديدة التي سيطرت على القرار الاقتصادي في الولايات المتحدة وبريطانيا، عقود ما بعد ثمانينيات القرن الماضي، بنظرياتها التي تقوم على تحويل العالم إلى سوق واحدة، من خلال مساهمة دول العالم غير الرأسمالية في هذه السوق العالمية، بعد عملية التحول من اقتصادها الاشتراكي والتنموي الموجه إلى اقتصاد السوق الحر.وأنشأت مع حلفائها منظمة التجارة العالمية، لتدير قواعد السوق المعولمة، وتسهر على ضمان التزام الدول المنضمة إليها بتحرير أسواقها، وعدم فرض قيود على السلع الواردة إليها.

إن إزاحة المعوقات عن طريق التجارة- حسب الليبرالية الجديدة – يتيح فرصة مناسبة لنموها، ولنمو الدخل الوطني لدول العالم، والدخول الخاصة للشعوب، وطالبت الحكومات باستخدام موارد التجارة الخارجية لمساعدة الشركات على التكيف مع المتطلبات الجديدة في الأسواق بهدف تطوير قدرتهم التنافسية. وتؤكد الإحصائيات العالمية أن حجم التجارة العالمية تطور تطوراً هائلاً بعد تحرير الأسواق وصل إلى نحو عشرين ضعفاً بين عامي 1973 و 1997. وبلغ إجمالي التجارة العالمية 13 تريليوناً و 60 مليار دولار في عام 2002، ثم ارتفع إلى 28 تريليوناً و272 مليار دولار في عام 2007.

السؤال هنا: هل أدى نمو حجم التجارة العالمية إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي العالمي؟ وهل انعكس على البلدان النامية تحسناً في دخلها الوطني؟ (1)

البيانات الإحصائية لا تدعم ما تروجه مصادر الليبرالية الاقتصادية الجديدة، ومنظمة التجارة العالمية، ففي حين ارتفع حجم التجارة بين عامي 1980 و 1995 بنسبة 85 %، ارتفع حجم الناتج العالمي بنسبة 50%، وحتى مع افتراض نمو الناتج في بلدان العالم بفعل تحرير التجارة العالمية، فهذا النمو ليس هدفاً بحد ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق هدف آخر ترنو إليه شعوب العالم، وهو تلبية متطلبات المجتمعات في هذه الدول، وتوزيع ثمار النمو المفترض وفق مقتضيات العدالة!

الحقيقة أن ما حدث هو العكس تماماً، فمعدل نمو دخل الفرد من الناتج العالمي تراجع إلى النصف بين عام 1973 وعام 2002، ففي أمريكا اللاتينية وإفريقيا والعديد من دول آسيا، كانت حصة الفرد تنمو باطراد حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي، لكن، بدءاً من عام 1980، توقفت حصة الفرد عن النمو، وتراجع الدخل الحقيقي للملايين، وارتفع عدد السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر من 280 مليوناً إلى 400 مليون، وهذه هي النتيجة الحتمية للتجارة المحررة من كل القيود في سوق غير تنافسية تسيطر عليها حيتان الصناعة والتجارة العالمية.

إن التكيف مع الأسواق العالمية المحررة تجبر الحكومات والمنتجين على اتخاذ مجموعة من الإجراءات، ويأتي في مقدمتها :

1 – العمل على تخفيض تكاليف الإنتاج إلى أقل حد ممكن، وعادة ما تكون الأجور هي المستهدفة بالدرجة الأولى، إضافة إلى إجراءات أخرى تتعلق بتحديث وسائل الإنتاج، وتكثيفها، وهذا ما يؤدي إلى نفقات باهظة، تفوق في كثير من الأحيان عوائد التصدير، إضافة إلى تسببه في زيادة عدد المتعطلين عن العمل.

2 – لمساعدة منتجيها ومصدريها على المنافسة في ميادين التجارة الحرة، التي تسيطر عليها الشركات المتعددة الجنسيات، التي تبني منصاتها الإنتاجية في مختلف دول العالم النامي تهرباً من الأجور المرتفعة، والتزامات الضمان الاجتماعي، والحصول على مستلزمات الإنتاج، والقرب من الأسواق الناشئة، فإنها تجبر الحكومات في الدول النامية على مساعدة المنتجين والمصدرين عبر مجموعة من الإجراءات، كتخفيض أعبائهم الضريبية، وإعفائهم من رسوم التصدير، وتخفيض الرسوم الجمركية على مستلزمات الإنتاج، ويصل الأمر في كثير من الأحيان،إلى منحهم إعانات بهدف تخفيض تكاليفهم، والوصول بإنتاجهم إلى الأسواق العالمية. وهذه الإجراءات تذهب بعوائد الحكومات الناتجة عن النشاط التصديري.

3 – تلجأ الحكومات، وخاصة تلك التي تمضي في انتهاج تحرير التجارة تطبيقاً لنهج الليبرالية الاقتصادية الجديدة، إلى تخفيض الإنفاق العام، وإلغاء مخصصات الدعم الاجتماعي للفئات الفقيرة والمتوسطة بهدف تعويض العجز في موازناتها بسبب الإعفاءات الضريبية والمزايا الأخرى التي تمنحها للمنتجين والمصدرين، مما يزيد من أعباء هذه الفئات، وشيئاً فشيئاً تزداد الفوارق بين معظم الفئات الاجتماعية، والنخبة التي تسيطر على الإنتاج والتصدير، وتتمتع بكل المزايا الحكومية.

في كانون الثاني من عام 1995، بدأت منظمة التجارة العالمية عملها كحارسة وراعية لانسياب السلع والخدمات بيسر وسهولة بين دول العالم، وبعد جولات متعددة من المفاوضات والاتفاقات الملزمة لجميع الأعضاء، وُضعت القوانين والنصوص التي تُلزم الأعضاء بفتح أسواقها أمام السلع المتدفقة إليها عبر تعرفة جمركية تخفض تدريجياً، وإزالة القيود الكمية عبر مفاوضات متعددة الأطراف، وتم أيضاً توقيع الاتفاق الخاص بالقواعد التي تحكم النزاعات التجارية التي تنشأ في معرض تطبيق بنود بقية الاتفاقيات، وبحكم الحجم الهائل للتجارة الأمريكية والأوربية واليابانية، فقد سيطرت هذه الدول على سياسات منظمة التجارة العالمية بما يحقق في النهاية مصالحها الاقتصادية رغم الخلافات التي تنشأ فيما بينها أحياناً، وبعض الحروب التجارية التي تنشب أحياناً أخرى والتي تتسبب بإشعالها الشركات العملاقة، لتندفع بعد ذلك الحكومات للدفاع عن شركاتها مهدِدة بإجراءات تهدد بنسف جميع الاتفاقيات والتفاهمات.

ورغم أن الدول النامية تشكل 80% من أعضاء منظمة التجارة العالمية، إلاّ أن هذه الدول تُعامل وكأنها من الدرجة الثانية، فقد استُبعِد معظم وزراء التجارة في هذه البلدان من المرحلة النهائية من مفاوضات الأورغواي عام 1993، وتوسلوا إلى الصحفيين الذين حضروا جانباً من هذا الاجتماع لكي يخبروهم عن آخر مجريات المفاوضات!  إن ثلاثين دولة نامية من أعضاء المنظمة لا يستطيعون وضع ممثل لكل منهم في مقر المنظمة في جنيف، لارتفاع تكاليف الإقامة فيها!

***************

المراجع

1- نشرة الأسكوا- كانون الأول 2008.

 

العدد 1105 - 01/5/2024