انتشار عدوى النزعة التحريفية

 الحديث عن ميشيل فوكو يعني بشكل أو بآخر حديث عن جزء أساسي من جوهر ثقافة عصر الظلمات الجديد، عصرنا ما بعد الحداثي، الرجعي بامتياز، فوكو الذي دافع عن الانحراف واللاعقلانية والتوغل في المجهول في أهم كتبه (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي)، وخص فيه السلوكيات الغريبة والشاذة، اعتبر القرنين السابع عشر والثامن عشر- متمسحاً بالنازية- زمن التنوير، بهدف ضرب عقلانية القرن التاسع عشر التنويرية الحقيقية، ويعود مصطلح الروحانية السياسية إليه، ومع أنه تحدث عن تجربة تعاطيه لحبوب الهلوسة بأنها كانت الأفضل في حياته وتوفي بالإيدز نتيجة علاقاته السادية، لكن بصماته ظلت طاغية على فكر مجموعته، فأندريه غليكسمان الذي شارك أيضاً في ثورة الطلاب وكان مقرباً من الحزب الشيوعي الفرنسي، دفعه تناقضه الداخلي أولاً باتجاه مجموعة (أكسيون) المتطرفة التي كانت تدعو للعنف الثوري في مواجهة الرأسمالية، وانتقل ثانياً إلى الوجودية واستقر به الحال عام 1974على تبني أفكار ميشيل فوكو، وظهر أخيراً بين إرهابيي بن لادن في أفغانستان منظّراً لما سمي بالحروب الإنسانية التي تخوضها واشنطن ضد شعوب العالم تحت ذرائع الحرية والديمقراطية والحقوق المدنية (راجع مقالة إسكندر حبش في السفير اللبنانية 11/11/2015 التي وصف فيها غليكسمان بمنظّر المجازر الحديثة).

ومن صفوف المجموعة المفكر الصهيوني آلان فنكلكروت المتحول من اليسار إلى اليمين العنصري المحافظ المناهض للأجانب، ومنهم أيضاً برنارد كوشنير المتقلب من شيوعي إلى اشتراكي إلى يساري راديكالي إلى رجل جورج بوش في فرنسا والمدافع عن حربه على العراق، ومنهم الصهيوني لوران فابيوس، أمين عام الحزب الاشتراكي الفرنسي 1992-1993. ومنهم الإعلامية البارزة نتالي نو غايرد وجون بول دولي وكريستيان جانبي غي لاردو وجون ماري بونو، أما أبرز وجوههم الحالية وأكثرها نشاطاً ميدانياً فهو الصهيوني برنارد هنري ليفي المتأثر بكل من ميشيل فوكو وغليكسمان والمتتلمذ على يد دريدا وألتوسر وهو أول من دعوا لتدخل الناتو عسكرياً في البوسنة عام 1990 ونشر في عام 2008 كتابه (يسار في أزمة مظلمة) الذي شوه الحقائق وقلبها رأساً على عقب معتبراً سبب أزمة اليسار المظلمة هو كراهية اليسار (المرَضيّة) للولايات المتحدة الأمريكية، في محاولة وقحة لتبرير انحرافه ومواقفه السياسية التابعة وضرب جوهر قيم اليسار، وقد تضمن كتابه (دوار المواشي) تهجماً عنيفاً على مناهضي سياسات واشنطن وتل أبيب، وكال فيه مديحاً للنفوذ الأمريكي العسكري في العالم.

كما يعتبر ليفي مساهماً نظرياً وعملياً في تكريس صراع الحضارات ونقله إلى صراع داخل مذاهب وطوائف وأعراق كل حضارة بذاتها، وهو أيضاً صاحب مصطلح الإسلام المعتدل والإسلام المتطرف، وهو شريك الكاتب الروائي أيلي فيزيل أخطر الشخصيات الصهيونية التي نشأت في أوكار منظمة أرغون الإرهابية ويترأس اليوم مجلس مستشاري جمعية إلعاد الصهيونية، وكان من أشد المحرضين على العدوان العسكري على سورية، ومن الحاصلين على جائزة نوبل للسلام وجائزة حارس صهيون، في تناقض هزلي يختصر كل سمات ما بعد الحداثة. لذلك فقد نفت الطبيعة الإجرامية الانحرافية لأعضاء المجموعة ،وأسقطت قناع شفافيتهم وحساسيتهم الزائدة من دكتاتورية البروليتاريا والسلطة السوفيتية، حين طرحوا أنفسهم بدلاء نزيهين نابذين للعنف، فائقي الإنسانية، لها وللشيوعية الشرقية عموماً، فتساقطوا الواحد تلو الآخر كمجرمي حرب في مزبلة تصميم المجازر والإبادات الجماعية، وكعملاء مأجورين في مشروع أمركة العالم، وكخدم في هيكل سليمان وكذروة قصوى للانحراف الفوضوي المدمر، ولذلك أيضاً وصفت أعمالهم بالسطحية، فقال عنهم عالم الاجتماع الفرنسي ريمون آرون: (ليس هناك فعلياً أي قيمة فلسفية فيما كتبوه). حتى جيل دولوز نفسه قال: (أعتقد أن فكرهم عديم القيمة). ووصفهم جورج لابيكا بقطاع طرق الثقافة، كما وصفهم الدكتور سمير أمين بنصّابي الفلسفة، بينما قدمهم إعلام العولمة المعاصر وبضمنه الإعلام العربي كأكبر فلاسفة فرنسا.

نزعة المركز التحريفية انتشرت عدواها في الأطراف، وكانت البداية في سورية حين حالت التناحة والكيدية عام 1976 دون نجاح كل الجهود المضنية للسوفييت لترميم الانقسام وإعادة وحدة الحزب الشيوعي السوري الذي أصيب تيار منه بعدوى معاداة السوفييت، كنسخة سورية لتجربة غربية سقطت قبل سنوات دون أن يشكل سقوطها درساً نقدياً لمن بقي (شبح ستالين السارتري) يحوم ويحجب عن وعيهم مدى خطورة تجذير الانشقاق العمودي، ومدى خطورة نشوء يسار راديكالي على النمط الغربي الانفعالي المحكوم بالنهايات الظلامية على يمين الحزب الشيوعي، معادٍ ومستفزّ دائم له، في وقت كان يتطلب رص صفوف جميع التقدميين لمواجهة التهديدات المتصاعدة داخلياً وخارجياً، فقد خلقت نزعة الانتهازيين شرخاً مفاهيمياً دائم النزف مستفحلاً كأولوية لماركسية تطعن الماركسية من داخلها.

جاء في كلمة الرفيق الراحل يوسف فيصل أمام المجلس الوطني عام1971 إن هناك رفاقاً يسعون لإضعاف العلاقات مع الاتحاد السوفييتي، وهذا خط إذا استمر فسيؤدي إلى نتائج وخيمة على هؤلاء الرفاق بالدرجة الأولى (ص77 من كتاب ذكريات ومواقف ج2 يوسف فيصل). وفي حديثه إلى مجلة الصياد عام 1972 كشف عن ظهور ما سمّي باليسار الجديد الذي تضرب مقولاته أسس النظرية الماركسية بتحويل وجهة الصراع الطبقي نحو صراعات أخرى جانبية، وقال (ما تعودنا اتهام أحد بإقامة صلات مشبوهة، لكن لدينا أدلة ووثائق تثبت أن بعض أفراد الكتلة من قيادات الدرجة الثالثة والرابعة لهم صلات بالمركز التروتسكي في أوربا) (المصدر السابق ص 161-164) وقد أكدت التطورات صحة تلك الرؤية، فقد تركت المراهقة السياسية وتطبيق النزعة التحريفية الغربية للماركسية محلياً آثارها البالغة السلبية على نشاط مجمل الحركة الشيوعية السورية وعلى رواد تلك النزعة أنفسهم.

وقد كشف انهيار الاتحاد السوفييتي أن معظم القوى اليسارية التي ناصبته العداء كانت تؤدي مهمة مأجورة موكلة إليها من قبل مؤسسات غربية رأسمالية أو وكيلة محلية تابعة لها، كما بدأت تنكشف تدريجياً أدوار جميع المجندين من قبل واشنطن في العدوان على سورية وبضمنهم بعض أصحاب الماضي اليساري. وحين صرح ويسلي كلارك القائد العام السابق للقوات الأمريكية وقوات حلف الناتو بأن الأوامر قد صدرت منذ عام 2001 للسيطرة على سبع دول عربية وفقاً لخطط الإدارة الأمريكية كانت قد نشطت في ذلك العام فعلاً شخصيات وقوى دينية ولبرالية ويسارية منحرفة تحت مسمى المجتمع المدني، وأقيمت المنتديات في دمشق وغيرها من المدن السورية، وكان البروفيسور برهان غليون، حامل الجنسيتين السورية والفرنسية، أستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون بباريس طرح نفسه للقارئ كتقدمي سرعان ما كشفت نزعته التحريفية  في مؤلفاته وأهمها (ثقافة العولمة وعولمة الثقافة)، وفيه يعارض الدكتور سمير أمين على ضرورة محاربة المشروع السلفي والتصدي له كجزء من ثقافة العولمة الأمريكية، ويعتبره مشروعاً اجتماعياً تاريخياً تمليه ظروف اجتماعية، كما دافع عن تلك العولمة نافياً عنها الصفة الاقتحامية الاستعمارية معتبراً أن سيطرتها لا تعني سلب الثقافات الأخرى قدراتها الابداعية، ولديه: المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، اغتيال العقل، نقد السياسة: الدولة والدين، وقد لعب دوراً رئيسياً في تنظيم تلك المنتديات ولمّ شمل المعارضة السورية التي يشكل التيار اللاعقلي غالبيتها العظمى.

العدد 1105 - 01/5/2024