قهوة برائحة السوريين..عندما يتوضؤون برائحتها ويبتهلون بمذاقها

 كلحظات الصلاة وما فيها من خشوع وإجلال وابتعاد مطلق عن الماديات الجسدية وحضور الروحانيات ولا شيء سواها.. هي كذلك طقوس السوريين في لحظات احتساء قهوتهم التي هي في ذاكرتهم كرائحة معبودتهم دمشق.. وكنكهة حلاوة ذكرياتهم الطفولية، فهم يستفيقون على المحبة وينامون على المودة والأمل والحياة الحميمة وما رافقها من فيض أرواح هامت في حواري الشام القديمة فقطفت من ورودها وأكلت من نارنجها ومشت كصوفي عاشق ألهبه العشق الالهي فحار أين يطفئه وبقلب من سيسكبه..

لقد تعشقت القهوة أرواحهم فصار لها رائحة تنفرد بها وحدها من بين كل أنواع القهوة في العالم بأسره.. قهوة السوريين برائحتهم وحدهم لا برائحة سواهم ولا تعطي هذا السر إلا لهم وحدهم.. هم أساسها وقوامها.. ورائحة الهال فيها هي من أنفاسهم العتيقة في حواريهم القديمة حيث تختلط فيها أرواحهم وسكون أنفسهم برائحة الياسمين وأشجار النارنج وصلاة ترفع للتو، وأجراس تدق في صباحات الآحاد..

العاشق السوري لسوريته تحديداً لا يحيا بلا وجه دمشق وقهوتها، فهما ملاذاه الأخيران نحو خلود روحه ولا خلود بعدهما.. خلود الأرواح في ذكرياتها و حنينها وشوقها إلى ماض يغيب في بئر الحرب المقيت في فرن الشقاء الذي نحياه.. وما أكثر العشاق السوريين! فهم رغم كل الآلام والدماء ومآسي الحروب لابد لهم من دخول محرابهم الخاص لتأدية أكثر الطقوس حميمية ودفئاً في صنع القهوة واحتسائها على الشرفات في الصباحات الخريفية أو الربيعية أو الصيفية.. أما الشتاء فله قهوة بنكهة المطر ورائحة الشوارع الدمشقية عندما يتعشق التراب قطرات الماء الذي ساقه غمام أتى من صلاة استسقاء الشفاه الطاهرة فشهد على طهرهم وصدق نواياهم..

محراب خاص لخشوع لحظات القرار بصنع فنجان قهوة لا يهم إن كان بسكر أو بلا سكر أو سكر خفيف..فالمهم هو تلك اللحظات السماوية في احتساء قهوة الذكريات وما تبثه رائحتها من لواعج تفيض النفس بها فتحولها إلى ثوان للخشوع ولا شيء سواه.. يبدأ الوضوء برائحتها وينتهي بالابتهال والتضرع إلى الله لدى مذاقها ورشف الحنين منها..

في كل الأوقات هي حبيبتهم الحاضرة التي لا تغيب وكأنها تنبض كقلوبهم تماما.. فتذكرهم بالحياة وتذكرهم بالعشق. يجتمعون في مواقيتها لتأدية طقوسها يشربونها وكلمتهم الأزلية حاضرة: (ما بتحلى القعدة بلا قهوة) وكأنهم سكبوا حلاوة الدنيا وهناءتها في ذلك الفنجان الصغير العابق برائحتهم ورائحة ذكرياتهم وحدهم.. روح السوريين في لحظات احتساء قهوتهم..

ولكن.. بعد غلاء البن ليصبح بأعلى سعر.. وليصل سعر كيلو البن العادي إلى 3000 ليرة سورية، أما النوع الأول من البن فقد قفز قفزة خيالية ووصل سعره إلى أكثر من 5000 ليرة سورية وربما في محلات مشهورة تخطى 7000 ليرة سورية..

هل سيعاود السوريون شرب قهوتهم في كل الأوقات صباحاً وظهراً ومساءً، والبن أصبح بعيد المنال و غالي الأثمان.. حتى أنت أيتها القهوة؟ ستنضمين إلى ركب المفقودات التي خسرناها في هذه السنين العجاف من عمر الحرب…التي لم تُبقِ لنا أهلاً ولا أعزاء ولا بيوتاً ولا حارات ولا حميمية ولا جلسات الجيران حول طاولة القهوة.. تلك القهوة التي تذكرنا بالماضي قبل الحرب هل سنتخلى عنها أو نقلص لحظاتها كي تتناسب والوضع المادي الذي قلص أرواحنا وقلص حتى روائح القهوة في بيوتنا…؟    

 

العدد 1105 - 01/5/2024