رعشة البرد

 عندما تغفو رعشة البرد في أحضان المدافئ المرمدة، وعندما تهبط الملائكة لتحصي قطرات الحزن..وشهقات الموت..وأنين الأرواح..وأعداد الشهداء..ودموع الثكالى..وعندما تحترق أجنحتها من لهيب النيران المتأججة باستمرار، وينكسر الترياق المستقدم لبلسمة آلام المعذبين هنا في هذه الأرض، ويهالها حجم الأوجاع، عندئذ.. لابد أن تعود خائبة مفطورة الفؤاد من حيث أتت، وتغيب في الأفق الذي هبطت منه.. وتطالب خالقها برحمة أشمل، بمعجزة تحدث للمقهورين هنا، معجزة استثنائية بلا أوصياء ولا أنبياء..

لم يعد مظلومو الأرض، على هذه البقعة المستعرة حرباً، ينتظرون الا حدوث معجزة سماوية تخلصهم من البرد والصقيع الذي حل بأرواحهم قبل أجسادهم.. لقد أغفلوا للحظات حديث الموت والدماء والفقر والغلاء والجوع والحصار، وبدؤوا يستذكرون دفء المشاعر ولا شيء غيره.. الدفء الذي اليه تتوق أرواحهم وشرايين قلوبهم قبل أجسادهم، تلك الأجساد التي مازالت الى اليوم ترتجف من البرد غير المعهود متزامناً مع نقص غير معهود أيضاً بمشتقات النفط التي غابت.فأطفئت المدافئ وبقي الرماد للذكرى..

الحديث هنا عن غائب غيابه يحفز الدموع ويلوع الروح، فالروح له تواقة ولا تقدر أن تحيا من دونه، دفء المشاعر هو غذاء تلك الروح وهو سر وجودها وخيطها الخفي نحو السماء ونحو الخلود.. دفء المشاعر هذا هو أساس الإنسانية وجوهر وجودها ولا إنسانية بغيابه لأنه هو من يحفز أصحابه لحب الغير ومساعدتهم والوقوف بجانبهم في السراء والضراء.. وهو متجسد أيضاً في من يقهر ذاته فيعلي ذوات الآخرين.. وفي من ينقص من أمواله كي يمدّ المحتاجين.. و من يصلي في الخفاء لأحبائه المرضى ويشعل الشموع ويحرق البخور ان هم شفوا. نراه في الشوارع والأزقة وفي وجوه المارة.. وفي سلوكهم أيضاً.. نراه في جلسات الصباح النسائية مع فناجين القهوة الدمشقية.. نراه أيضاً في المقاهي وأحجار النرد بين أصابع الرجال وهم ينفثون دخان الأراكيل وكؤوس الشاي بجانبهم والرضا مكللهم..

نشهده في سكبات الطعام بين جيران متحابين.. يدخل أيضاً في التصاق يد العاشق بيد محبوبته وهما يتمشيان في حواري دمشق القديمة.. نلمحه يبني قصراً في لعب الأطفال وضحكاتهم وعلى أسرّتهم.. ولكنه، بحضور الحرب ومفرزاتها السوداء هو الآن يغيب ويتلاشى في زمن الطمع والسرقة والنهب والقتل.. وما أكثر الأرواح التي بدأت ترتجف من برد غيابه، ما أبشع هذا الصقيع الذي يجتاحنا جميعاً! انه أبشع، وأصعب، وأشد وطأة من صقيع البرد الطبيعي.

تلبس الأجساد ما يدفئها وتتدثر بالأغطية الصوفية في حال البرد الشديد.. أما إن بردت المشاعر وانتهت الى الاحتضار فكيف السبيل لإنعاشها؟ وأين المسعفون والأطباء..؟ لقد هاجر الجميع ومات الآخرون.. وبقي البرد، برد المشاعر والعواطف يجتاح القلة الباقية من الشرفاء، وعلى رقصات أجسادهم المرتعشة من برد الطبيعة يستحضرون في ذاكرتهم دفء الحياة السابقة عندما كان عنوانها المحبة، وغذاؤها التواصل الودي بين الأشقاء في الوطن، وأنفاسها من جبل قاسيون، وشرابها مياه بردى، وملحها بحر الساحل، وشمسها تشرق من المناطق الشرقية ومغيبها ومستقرها في حلب. ويمر الوقت مسموماً بعذوبة الذكريات ويتذكر الشرفاء تلك الالفة والمحبة بين ربوع الوطن. فتسري في أجسادهم شرارة الدفء.. ويبتهلون ويتضرعون الى الله أن تنتهي تلك الحرب لإعادة ترميم الروح التواقة لدفئها الذي سلبوها إياه عنوة.. قد تغفو الرعشات في أحضان المواقد المرمدة من نقص المشتقات النفطية.. ولكن ماذا عن برد المشاعر وصقعيها.. أين السبيل لمدفأة ولو كان الرماد يعلوها ويمتلئ بين جوانبها فندفن فيه ذاك البرد عساه ينبعث يوماً دفئاً من تحت الرماد…

العدد 1107 - 22/5/2024