الانفجار في قلعة الرجعية

خرج الخلاف السعودي- القطري مجدداً إلى العلن، على شكل انفجار تجاوز في عنفه ومداه ما سبقه، وغني عن القول، أن لهذا الانفجار خلفيات وتراكمات، وقد سبق له أن انفجر أكثر من مرة، كان آخرها عام ،2014 لكن يلاحظ أنه اندلع، هذه المرة، بمجرد عودة ترامب من رحلته إلى المنطقة،
ولم يعد خافياً أن رحلته هذه استهدفت تحقيق هدفين أساسيين: الأول، عقد تحالف للدول السنية، ونواته دول الخليح بزعامة السعودية، ومشاركة إسرائيلية، ضد إيران.
أما الثاني، فهو ابتزاز دول الخليج النفطية مالياً.

وفيما يتعلق بالهدف الأول يمكن القول بأنه ولد ميتاً، ذلك أن دول الخليج، وهي التي ينبغي أن تشكل محور هذا التحالف وتمويله منقسمة على نفسها بهذا الخصوص، فالقطريون تربطهم بإيران علاقات اقتصادية حيوية لا يمكن القفز من فوقها،
ذلك أن حقول النفط والغاز في شمال قطر، مرتبطة بحقل فارس الجنوبي لإيران، ويصعب عليها الدخول في تحالف عسكري علني ضد الأخيرة، بينما عُمان والكويت تحجمان عن المشاركة في تحالف كهذا ضد إيران لاعتبارات مختلفة.

أما الهدف الثاني من رحلة ترامب فهو جمع ما يعادل تريليون دولار، كما أشارت مصادر صحافية، لدعم مواقعه المهزوزة في بلده، ومحاولة إنعاش الاقتصاد الأمريكي الغارق في الأزمات والديون، وقد حقق في السعودية، محطته الأولى في هذه الرحلة، قرابة نصف هذا المبلغ، على شكل صفقات سلاح لم يسبق لها مثيل،
وتوظيفات أخرى، بينما كان ترامب يأمل أن تحذو قطر، ثاني خزان للمال في الخليج، حذو السعودية وتكمل النصف الآخر للمبلغ المرغوب به، لكنها لم تتجاوب مع شهية العم سام، مكتفية بنفقاتها الروتينية الباهظة على خدمات قاعدة العديد الحربية الجوية، الأكبر في الشرق الأوسط، والميناء البحري الحربي للأسطول الأمريكي الخامس، لكن يبدو أن هذا الامتناع عن المساهمة المالية القطرية،
كان إشارة، في الوقت ذاته، إلى تضامن قطر مع تركيا، الحليف الاستراتيجي الأوّل لها في المنطقة، ومعلوم أن علاقات تركيا تمرّ اليوم بأزمة مع واشنطن على خلفية الجيب الكردي، شمالي سورية، الذي تتبناه واشنطن، بينما تعتبره أنقرة خطا أحمر.

ومن المعروف، في هذا الصدد، أن جميع جهود واشنطن ونفقاتها بمئات ملايين الدولارات، على تجنيد مرتزقة وتدريبهم، ليكونوا قاعدة لها في سورية قد فشلت فشلاً ذريعاً، واليوم إذ تشرف عملية عصابات الإسلام السياسي التي جنّدتها السعودية وقطر، على نهايتها المحتومة، فلم يبق أمام واشنطن إلا محاولة الرهان على الجيب الكردي، شمالي سورية،
لتدّعي بأن لها شيئاً على طاولة التسوية للحالة السورية، لكن هذا يمثل خطاً أحمر لأنقرة، التي ترى في إقامة هذا الجيب الكردي شمالي سورية، وعلى حدودها المباشرة، تسعيراً لتطلعات عشرين مليون كردي في تركيا للتمرد، والمطالبة بحقوقهم القومية، ويبدو أن هذا التناقض الأمريكي- التركي مستعصٍ على الحل، في الوقت الحاضر، على الأقل.

وبهذا، يمكن القول بأن إشارة التفجير لهذه الموجة من المواجهة السعودية – القطرية انطلقت من البيت الأبيض، يرجّح ذلك، خروج ترامب، فوراً وعلناً، لدعم السعودية في صراعها المتفجر مع قطر، معتبراً أن عزل قطر هو (بداية النهاية للرعب والإرهاب)، بينما قام وعلى الفور، بالاتصال مع أمير قطر لعرض وساطته في تسوية هذا النزاع،
ولا يحتاج الأمر إلى ذكاء خاص لإدراك أن هذه الوساطة المشبوهة، من رجل أعمال، ليست مجانية، بل لإرغام قطر على دفع ما ترددت في فعله في حينه، على شكل صفقات سلاح وغيرها، بمئات المليارات، وبالتالي فإن تطويق هذه الجولة من الصراع العلني بين السعودية وقطر يتوقف على إشارة جديدة من البيت الأبيض.

عدا ذلك، يعود أساس الخلاف السعودي – القطري، لإفلاس المشروع الذي تنافس وتبارى حكام السعودية وقطر على تحقيقه، وأنفقوا عليه عشرات وعشرات المليارات من الدولارات، وهو أخذ سورية بواسطة عصابات الإسلام السياسي، هذه العصابات التي تولّى كل من جانبه تجنيدها وتمويلها وتسليحها، وتعاقبوا على قيادة مراحل التنفيذ،
بإيعاز من (المايسترو) الأمريكي، جاء القطري أولاً، ثم السعودي، لكن هذا المشروع يلفظ اليوم أنفاسه الأخيرة، وفشلُ الطرفين وهزيمة مشروعهما، سبب أساسي في تفجير نزاع كامن بينهما، حول مسؤولية هذا الفشل المدوي، والطريف في الأمر أن يتهم حكام السعودية حكام قطر برعاية الإرهاب! وكأنهم حمام مكة، لا علاقة لهم بالإرهاب،
ولا يتقاسمون رعايته المشينة، بينما ترامب يتهم قطر بأنها تموّل الإرهاب منذ زمن طويل، فأين كانت واشنطن، ولماذا الآن تنتقده؟ ألم تكن الراعي الأول للإرهاب؟

لكن ما إن انفجر النزاع بين السعودية وقطر، على شكل صعقة قوية، مع استقطاب السعودية لبعض الدول العربية الأخرى، لها اعتباراتها المختلفة، وحصار فوري على قطر، لإرباك حكامها، حتى تداعت عناصر إقليمية ودولية للتأثير على مسار هذه الأزمة، فقد سارعت تركيا، لاعتبارات استراتيجية، للوقوف إلى جانب قطر،
بتمرير قانون في برلمانها يتيح إرسال قوات تركية لقطر، مما يعرقل أي تدخل عسكري سعودي ضد الأخيرة، كما لمّحت التهديدات، كما عرضت إيران، لاعتبارات تكتيكية، عن فتح ثلاثة من موانئها أمام قطر، وتعهدت بأن تؤمّن خلال أسبوع واحد المواد الغذائية لقطر بدل التي كانت تستوردها من السعودية وأتباعها، كما دخلت روسيا على خط الوساطة، بينما طالبت ألمانيا برفع الحصار عن قطر.

وعلى أي حال، ينبغي النفي القاطع للوهم بأن هذا الصراع سيقود حكام قطر الى الخروج على طاعة السيد الأمريكي آخر المطاف، فهؤلاء شأن صنوهم حكام السعودية مدينون ببقائهم لاستمرار الحماية الأمريكية، وبالتالي: يصدق فيهم بيت الشعر الأندلسي:

(إن كنت تقتلني فأنت محكّم… من ذا ينازع سيداً في عبده!)

وفي المحصلة العامة، فهذا النزاع المتجدد بين السعودية وقطر، يفاقم الاقتتال الدموي أيضاً بين بقايا العصابات المسلحة التابعة للطرفين، فوق الأرض السورية، مما يؤدي إلى المزيد من إضعافهما واستنزافهما، وقبل ذلك، سيضعف هذا النزاع الطرفين، مهما أسفرت نتيجته، وهذا ربح صافٍ للشعوب العربية التي طالت معاناتها من تآمر هؤلاء الحكام،
وبخاصة في السنوات الأخيرة، وما سببوه من ضحايا ودمار مريع، كما أن صراعاتهم على هذا النحو، تعرقل المشاريع الأمريكية -الإسرائيلية في المنطقة، وتؤشر إلى أن المعادلات في المنطقة وشيكة التغيير، بحيث يعود زمام المبادرة الى أيدي القوى المعادية للإمبريالية والصهيونية، وبهذا سيكون شعبنا الفلسطيني في طليعة الرابحين.

أما المتآمرون الذين تحوّلوا في أجواء فشلهم، إلى الصراع فيما بينهم، فينطبق عليهم قول الشاعر: (والنار تأكل بعضها.. إن لم تجد ما تأكله).

 

العدد 1105 - 01/5/2024