الخبرات المهنية والفنية..خسارة يصعب تعويضها

 أفرزت السنوات الماضية، الكثير من المشكلات والعقبات، وفاقمت أخرى، وكشفت الحجاب عن بعضها، وجعلتها تتجلى بقوة، أظهرت معها حجم حاجاتنا إلى أمور عدة، أسفرت عن قلة اهتمامنا بأهميتها ووعينا لها، فاليد العاملة المهنية والفنية السورية، هي عماد الحياة اليومية في البلاد وأساسها، وهم حجر الزاوية، الذي يقوم عليه البناء، ومن غيرهم لا يستوي ولا يستمر.

فمن قبل أن تبدأ هذه السنوات السوداء، التي نمر بها، نشأت ظاهرة، تمثلت بعزوف الشباب عن تعلم بعض المهن اليدوية وممارستها، التي تشمل النجارة والسباكة والميكانيك والكهرباء والخراطة، وغيرها الكثير من مهن تحتاج إلى خبرة عملية، اقترن بعضها بدراسة أكاديمية، ولعدم ملاحظة هذه الظاهرة في بدايتها، خلفت اليوم بعد نموها، وفي ظل هذه الفترة القاسية التي تمر بها البلاد، مشكلات تشترك في جوهر واحد، وهو نقص عدد اليد العاملة بهذه المهن، الذي تبلور بفقدان أصحاب الخبرة، والمهارة العالية، وخسارة بعضهم الآخر لمكان عملهم ووسيلة رزقهم، وبقاء قلة من المستجدين غير المتمرسين، إلى جانب حفنة من الخبراء، ما أدى إلى صعوبة الوصول إلى المحترفين منهم، وغلاء أجورهم، فضلاً عن ارتفاع أسعار المواد التي يستخدمونها، ما دفع الكثيرين من أصحاب الدخل المحدود، لمحاولة تخفيف نفقاتهم، عن طريق تجربة إصلاح صنبور ما في بيتهم، أو طلاء جدران غرفتهم، أو تركيب قابس كهربائي، أو….وذلك فقط لتوفير أجر الفني، والاكتفاء بدفع تكاليف المواد المستخدمة، بيد أنهم لا يحصلون على نتيجة جيدة، ولا يحلون مشكلة، ولهذه الظاهرة أسباب عديدة، أبرزها بدأ من زمن واستمر إلى الآن، وهي عدم تحديث المناهج الدراسية، في مدارس التعليم المهني الثانوي، بفروعه، وعدم متابعتها وتطويرها بما يتناسب مع تطور هذه المهن وأدواتها _كما في الغرب_ إلى جانب توجه أغلب الشباب إلى إكمال دارستهم العلمية رغبةً منهم في الحصول على شهادة أكاديمية علمية، وذلك بسبب إهمال الحكومة لتوعية الطلاب وذويهم، وإبراز أهمية هذه المجالات ودورها الفعال، وضرورة وجودها في المجتمع، كما أن قلة مراكز التأهيل والتدريب المهني، التي تمنح شهادة خبرة معترفاً بها على كل الاصعدة، هي عامل مهم في ابتعاد الناس عن هذه المهن، إضافة إلى اهتمام الناس بمكانتهم الاجتماعية (البرستيج)، وقد حصروها ببعض الاختصاصات دون غيرها، وإهمال باقي المجالات رغم أهميتها، وعدم إمكانية الاستغناء عنها، وآخر هذه الأسباب، الذي تزامن مع الحرب، هو هجرة الشباب واليد العاملة، بسبب سوء الأوضاع الأمنية، وتراجع المستوى المعيشي إلى الحدود الدنيا، إضافة إلى سفر بعضهم تجنب التجنيد، وهذه الأسباب لم تقتصر على المجالات المهنية والفنية، بل أرخت بظلالها أيضاً على القطاع الزراعي، الذي شهد تراجعاً كبيراً في الإنتاج، نتيجة نقص أعداد العاملين فيه، تبعاً لهجرتهم داخلياً وخارجياً بسبب الحرب، وما أسفر عنه من تراجع في إنتاج أشهر الحاصلات الزراعية، إلى ما دون النصف.

وحلول هذه المسألة لا تنسلخ عن أسبابها، فإن تجاوزنا أسبابها سنكسب الرهان بعدم تكرارها، وخصوصاً أننا نمر بمرحلة تشهد استقراراً أمنيا، وانفراجاً اقتصادياً، ومع تحرير مناطق كثيرة، وعودة سكانها إليها، ستنشط أعمال هذه المهن، وتظهر الحاجة إلى فنيين يقومون بإعادة التأهيل، وإصلاح الأضرار الكبيرة التي أصابت تلك المناطق، لذلك، حسب رأيي، على الحكومة السورية، أن تعيد النظر بدور مدارس التعليم المهني، لتهيئة جيل لديه مهارة بالعمل المقترن بالعلم، وتوعية الناس بأهمية هذه المهن وتطويرها، وإنشاء مراكز تدريبية مختصة، تعمل على صقل مهارات الشباب وتطويرها، تابعة للوزارات المعنية والمتصلة بهذه الأعمال، والعمل على فتح باب القروض، من دون فوائد تثقل كاهلهم، لإنشاء مشاريع صغيرة ومتوسطة، تعود عليهم وعلى البلاد بالنفع، لنمهد الطريق ونؤمن مهنين وفنيين، في كل المجالات، التي سنحتاجها في مرحلة الإعمار المرتقبة، بعد انتهاء الحرب، لأننا سنعمل على إعادة بناء البنى التحتية، وتأهيلها، وإنشاء مشاريع اقتصادية، وخدمية وسياحية، تنهض بالبلاد من جديد، لكي نعتمد كلياً على القوى السورية العاملة، وطاقاتها، في إعادة الاعمار، بسواعد وخبرات سورية لا غير.

العدد 1105 - 01/5/2024