منازل من لهب.. بيوت السوريين زمن الحرب

العينان ياسمينتان تحجبان ببياضهما الأهوال السوداء المرئية، قلوبهم شجرة حور عتيق تمتد في داخل أجسادهم، فتعانق جذورها أوردتهم وشرايينهم فتمنع كل موت محتم قادم إليهم، أنفاسهم شعلة نورانية سماوية تضيء ولا تحرق، آهاتهم مزيج من مطر وثلج أطفأ ببرودته حرقة نار مآسيهم في فقدان أعزائهم، وفقدان كل ذكرياتهم في منازلهم التي دُمرت فدُمّر بدمارها ماضٍ جميلٍ، وحاضر كان يحضر له ليكون أجمل, وغاب كل ذاك في طيات المستقبل المجهول.

إنهم السوريون الذين يغلف أجسادهم الياسمين والحور ليصبروا على ما أحاط بأرواحهم من ويلات، فعن صبرهم في زمن الحرب تروى الأساطير، ولكن أن تسد أمامهم السبل، حتى تضيق عليهم الدنيا كضيق القبر على الميت، فهنا الأمر غير المبرر وغير المقبول، فبعد أن هجروا ودمرت منازلهم بفعل الحرب واضطروا الى النزوح تاركين خلفهم غصة الماضي، حاملين معهم ألم الفراق، يواجهون فراقاً أصعب، ألا وهو فراق الإنسانية وتلاشي الرحمة، الذي فاجأهم به أصحاب البيوت التي ستأويهم، ويشهدون دماراً آخر شبيهاً بدمار منازلهم الأولى على أيدي الإرهابيين.

ارتفعت أسعار العقارات في سورية خلال سني الأزمة ارتفاعاً لم يشهد له مثيل في تاريخ هذه المنطقة، فضغط البشر المهجرين نتيجة الحرب الذين اضطروا تحت تهديد العصابات المسلحة للهروب إلى مناطق أكثر أماناً، إضافة الى قلة المعروض وازدياد الطلب، وغلاء مواد الإكساء، كل ذلك شكل صفقة تجارية رابحة لدى المالكين والسماسرة على حد سواء، فالغرفة التي كان إيجارها 2000 ليرة قبل الأزمة باتت اليوم بعشرين ألفاً والمنزل الذي لم يكن يتجاوز إيجاره 5000 ليرة أصبح اليوم بين 60 _100 ألف شهرياً.

أما أسعار المنازل فقد حلقت عالياً وبأرقام فلكية، فمنذ شهر بيع منزل في المالكي بـ650 مليون ليرة سورية؟ أما في المزة فيبلغ سعر المنزل 100 متر بين 80_100 مليون سورية، ولا يقل الإيجار عن 200 ألف شهرياً.

ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى السكن العشوائي، فالبيت الذي كان ثمنه مسبقاً مليونين أو ثلاثة ملايين في منطقة مثل المزة 86 أضحى سعره اليوم بين 15_20 مليوناً، والإيجار ليس أقل من 30 ألف ليرة شهرياً.

أما في جرمانا فقد استنكر المواطنون الأرقام الاعتباطية لإيجارات المنازل، التي فاقت إمكاناتهم عشرات الأضعاف، فقد تراوح إيجار البيت وسطياً بين 50_75 ألف للبيت العادي، وطالبوا بوضع حد لأصحاب المكاتب العقارية الذين يزيدون أسعار الإيجار لأنهم يأخذون عن كل بيت مؤجر مبلغاً يكون إيجار شهر، هذا فضلاً عن إجبار المستأجر على توقيع عقود لمدة شهرين أو شهر لإخراجه مرغماً والاستفادة بعد ذلك من التأجير مرة ثانية.

السؤال الجوهري هنا: هل تتناسب أسعار العقارات المبيع أو الايجار في الوقت الحاضر مع الرواتب المتدنية التي أقصى حدودها40 ألف ليرة شهرياً؟

ماذا عن غير الموظف؟ ماذا عن النازحين بلا عمل ولا دخل؟ ماذا عن طلاب الجامعات؟ ماذا عن كل من تضرر بفعل هذه الحرب؟

أين محافظة دمشق والجهات المعنية بالمصالح العقارية والسكن، كي تلجم تلك الأسعار غير المقبولة، التي يتحكم بها جيش من اللصوص من المتعهدين وأصحاب المكاتب العقارية؟

أين هم من معاناة المواطن الذي تقطعت به السبل؟ لماذا لا توضع آلية محددة وفق خطة مدروسة، كي تكون أسعار العقارات ضمن الحدود المعقولة؟ مع التشديد على العقوبة الصارمة لكل من يتلاعب ويتحكم بسوق العقارات؟

يكون المنزل عادة هو سكن الإنسان وراحة قلبه وبدنه، فهل بعد هذه الطفرات العقارية الخارقة من ملاذ يأوي المواطن فيه إلى بيوت لا تكون جدرانها من نار ولهب كما يريده لهم من يتحكم بسوق العقارات؟!

العدد 1105 - 01/5/2024