للتأمين الصحي للعاملين في الدولة.. منغصات… إلى متى؟

حلم التأمين الصحي في سورية كغيره من الأحلام التي كانت في بدايتها جميلة وبراقة، واستحالت فجأة إلى مستنقع تنتشر فيه الأوبئة والمشكلات، وأصبح كل من المؤمّن له (الموظف) ومقدّمي الخدمات (الأطباء، الصيادلة، المخابر، المشافي.. إلخ) المتعاقدين مع المؤسسة العامة السورية للتأمين، يشتركون في استغلال التأمين كل لمصلحته الخاصة، ليكون المتضرر الأكبر الدولة والموظف الشريف.

في قفص الاتهام

وصفت عملية التأمين الصحي الإلزامي للعاملين في الدولة بأنها خطوة إيجابية نحو مستقبل أفضل يؤمّن للموظفين ثم لعائلاتهم مستوى صحياً مرتفعاً بأجور رمزية. وفعلاً بدأت عملية تأمين الموظفين صحياً، وقد عبّر عدد من الموظفين عن سعادتهم بهذا الإجراء، لما يقدمه لهم من خدمات تخفف عنهم تكاليف العلاج، خصوصاً أنهم ينتمون لطبقة محدودي الدخل، في حين لم يخلو الأمر من تجاوزات وتحايل من قبل بعض المتنفذين والانتهازيين.
ولكن اليوم ومع مرور سنوات الحرب وارتفاع تكاليف المعيشة والطبابة بشكل كبير وهائل، سبب فجوة بين أجور الخدمات الطبية المحددة من وزارة الصحة والتي تتعامل بها المؤسسة العامة للتأمين، والمبالغ المطلوبة في المشافي والمخابر وعيادات الأطباء أو لقاء بعض الإجراءات الشعاعية.. إلخ.

هذه الهوة كان لها عدة تبعات أبرزها فسخ عقود العديد من مقدمي الخدمة مع المؤسسة، لأن المبالغ المستحق تسديدها لهم لا تناسبهم ويعتبرونها قليلة جداً، ولأن وزارة الصحة لا تستجيب لطلباتهم بتعديل التسعيرة بما يتناسب مع متطلبات الفترة الراهنة، وأنها المسؤولة عن هذه الفجوة التي سببت عقبات تقف بوجه عمل نظام التأمين بالشكل الأفضل.

فنون التطفيش

تختلف أساليب مقدمي الخدمة في رفض المؤمّن له، وقد تبيّن أن أبرعهم بفنون (التطفيش) بلا منازع هم الأطباء والصيادلة، إذ اتبع الأطباء الأسلوب المهذب، فيضعون الممرضة بالواجهة من خلال رفضها استقبال المريض، بذريعة أن الطبيب مشغول أو بأنه لم يعد ممن يتعاقدون مع مؤسسة التأمين، ومنهم من استعمل أسلوب تهميش المريض المؤمّن له وتركه ينتظر بشكل مقصود ساعات طويلة
ثم يستقبله الطبيب في النهاية بوجه عابس يظهر ما يخفيه من امتعاض وانزعاج من المريض المؤمّن له، و (ينتقم) منه بأن يصف له أدوية أجنبية أو تحاليل لا تغطيها التأمينات، ويحدد له أسماء صيدليات أو مخابر بذريعة ثقته بهم! أما في الحقيقة فيكون الطبيب على اتفاق مسبق معهم، فيقتطعون له نسبة من أجور المرضى الذين أرسلهم إليهم.

أما الصيدليات فقد اتسم أسلوبهم بإلقاء اللوم على غيرهم، فيكون ردّهم إن (النّت) مفصول، أو أن الموافقة على صرف الوصفة الطبية تأخذ وقتاً طويلاً لا ينتهي إلا بانتهاء صبر المريض الذي يمل بالنهاية من كثرة الانتظار، ويتجه نحو أي صيدلية أخرى ويصرفها مباشرة من غير تأمين، وأحياناً أخرى يقوم الصيدلي بتقليص عدد الأدوية، ويكتفي بصرف الأرخص ثمناً لأن البقية على زعمه غير موافق عليها أو أنها مفقودة، وغير ذلك الكثير من الحجج والذرائع التي لا تنتهي.

طرق الاحتيال

في كل قطاع نجد أفراداً ضعاف النفوس يستثمرون كل الفرص التي تقدم لهم مكسباً مادياً يصب في جيوبهم، ولو على حساب مؤسسة التأمين التي بلغت خسارتها قرابة 5 مليارات ليرة لعام 2016 في القطاع الصحي. وعند متابعة مصدر التجاوزات تبين أن الفساد والتلاعب بهدف الربح انتشر بين مقدمي الخدمات والموظفين المؤمن لهم على حد سواء!

فظهرت نسبة لا يستهان بها من الأطباء الذين يقبلون استقبال المؤمن لهم بشرط دفع 50٪ من أجرة المعاينة بينما ينص قانون التأمين على دفع 10٪ فقط.

أو أن يتفق الطبيب مع أحد الموظفين الفاسدين ويسجل أسماء مرضى وهميين ليتقاضى بدلها من قبل شركة التأمين، بينما وجد الموظف المؤمن له طريقة تمكنه من جني الأموال، فيذهب لزيارة الطبيب من غير مرض بهدف الحصول على وصفة طبية في كل شهر بقيمة 4-5 آلاف ويقوم بصرفها من إحدى الصيدليات المتواطئة معه عبر أخذ الأموال بدل الأدوية،
أو صرفها ببدائل لا يغطيها التأمين، وذلك طبعاً بعد الاتفاق مع الصيدلي الذي يقتطع نصيبه من ثمن الوصفة، ليكونوا معاً دائرة فساد وتحايل، بينما تقوم بعض المشافي في حال إجراء عملية بتقليص حصة الطبيب المسؤول عن إجراء العملية لزيادة ربحها، مما تسبب بخلافات بين الأطباء وإدارة المشافي، ودفع الأطباء إلى مساومة المرضى المؤمن لهم على مبلغ مالي يتخطى 25 ألف (برّاني)
دون علم المستشفى لإجراء العملية، والكثير الكثير من الأساليب التي خفي أعظمها وتجري دون علم مؤسسة التأمين، وتخالف بها القوانين الناظمة للعملية بهدف حماية جميع الأطراف.

إلى متى!؟

بينت تجربة التأمين الصحي الإلزامي عن عدم خبرة كل الأطراف المعنية بجوهر التأمين الصحي، من الموظف المؤمّن له الذي استنزف خدمات التأمين وحاول تحصيل مبلغ مالي يفوق بعشرات المرات ما تم اقتطاعه من راتبه، إلى أن يصل إلى أصحاب النفوذ والمستفيدين من استمرار حالة الشتات وعدم التنسيق بين المتعاقدين ومؤسسة التأمين…
مما يضع مؤسسة التأمين ووزارة الصحة أمام تحدٍّ جديد لإيجاد حلول ناجعة تقف بوجه هذه التجاوزات والانتهاكات المستمرة بشكل سريع وفعال، للحيلولة دون تفاقم الأمور التي لا تصب في مصلحة الموظف الذي يعاني أصلاً من أوضاع معيشية سيئة للغاية، وكان هدف التأمين الأول حمايته ومساعدته بتحمّل تكاليف الصحة المرتفعة.

 

العدد 1107 - 22/5/2024