أجراس ذلك العيد القديم!

غطت أزهار شقائق النعمان الحمراء وجه السهل كله، وكان السهل يطوق الجهة الجنوبية من القرية الرابضة على تلة عالية. كان المشهد ساحراً، فقد اختلط اللون الأحمر بخضرة العشب الندي، وكان السنونو قد شرع بموجات طيران ولهو أثارت الانتباه.. فتحت النوافذ وتسللت الشمس إلى البيوت تداعب وجوه الأطفال تريد أن توقظهم باكراً من أجل العيد.

كانت الكنيسة تقع في رأس التلة العالية، فراحت تقرع أجراسها احتفالاً بالعيد، وتدعو إلى الصلاة صبيحة ذلك العيد. فالصلاة تجمع الناس وتحثهم على الألفة والرحمة والمحبة، وكان لقرع الأجراس جلالاً خاصاً أضفى على القرية قدسية وسحراً!

لم تكن الحرب قد انتهت، لكن أخبارها كانت تتوالى من مواقع القتال، وكان الجنود يهتفون باسم الوطن عالياً مع كل انتصار جديد، أما ذلك الصباح، فقد هدأت جلبة الحرب، لكنها عادت وتجددت بعد ساعات!

وصلت السيارة البيضاء إلى القرية برفقة سيارتين عسكريتين، فيما كانت الكنيسة تقرع أجراسها.. وسريعاً توجهت السيارات بمن فيها إلى هناك، ونزل منها أربعة جنود وضابط، ثم لحق بهم أربعة آخرون يحملون نعشاً ملفوفاً بالعلم!

سرى الضجيج في ساحة الكنيسة، ولم يكن قداس العيد قد بدأ بعد، وقيل إن المطران ورجال الدين كانوا يعرفون.

فجأة توقف الضجيج، وتوالى همس من نوع جديد يحمل أسئلة كثيرة:

– هناك شهيد وصل تواً مع رفاقه العسكريين!

– من هو هذا الشهيد؟

– من من أبناء القرية يؤدي خدمة العلم؟!

– هل هو من الضباط المتطوعين؟

– هل هو من الجنود؟!

كانت الأسئلة كثيرة، وكان ثمة ثلاثون أو أربعون من سكانها في الحرب.. فمن هو صاحب النصيب بالشهادة؟!

دخل النعش ملفوفاً بالعلم السوري، وقال أحد الرسامين الذي كان يرقب المشهد من نافذته إن لون العلم كان ساحراً يتمازج مع لون أزهار شقائق النعمان والعشب الأخضر الندي الذي غطى السهل.

رحب رجال الدين بالضباط والجنود، وساعدوهم في وضع النعش داخل الكنيسة، وفي هذه الأثناء سأل أحد أبناء القرية:

– من هو الشهيد؟!

خفقت قلوب كل من في الكنيسة. وكان المئات قد بدؤوا يتوافدون من أنحاء القرية.. قال الضابط:

– ليس مهماً من يكون! المهم أنه ضحى من أجل وطنه واستشهد بطلاً!

رفع الجميع رؤوسهم فخراً، وظلت الأسئلة على الشفاه.. تعالت الأجراس من جديد، ثم أقيم القداس، وقال المطران:

– الشهيد هو ابننا جميعاً.. ابن سورية.

وكان كل واحد من الحاضرين يخمن أن قريبه هو الشهيد!

كانت الأجراس لا تزال تقرع عندما أعلن عن اسم الشهيد.. بحثت الوجوه بعضها عن بعض، والتقت النظرات.. لم يكن الشهيد من تلك القرية.. كانوا يعرفونه ضابطاً من القرية المجاورة لهم، ومع ذلك ظلت الأجراس تقرع، وظلت الرؤوس مرفوعة، إلى أن وصل النعش إلى القرية المجاورة، فترامى منها صوت المآذن تكبر للشهيد، وكان السهل يشتعل بألوان شقائق النعمان والعشب الندي الأخضر الذي يشبه العلم السوري!

العدد 1105 - 01/5/2024