أول أوراق الحرب.. أول أيام المدرسة!

لم أصدق ما حصل تلك الليلة.. كانت الحرب في جبال الجولان قد بدأت قبل ساعات، وكانت دمشق تستعيد صدى ذلك الدوي البعيد المتتالي لقصف المدافع السورية التي انطلقت تقصف المواقع الإسرائيلية بلا هوادة.

قالت أمي:

– هي الحرب إذن!

وقال أبي:

– هل نفعلها هذه المرة؟

لم تفهم أمي مغزى السؤال الذي طرحه أبي، بل لم أفهم أنا أيضاً قصده إزاء مانفعله هذه المرة. شاهدته أمي يدفن رأسه بيديه، ويبكي، فقالت:

– هيه يا رجّال. ماذا حصل؟ ما الذي يدعوك للبكاء؟

وكأني سمعتها تقول له (إخس على الرجال. هل تخاف من الحرب؟!). وانتفض أبي. كان مقهوراً تحول وجهه إلى لون داكن أضفى عليه النور الخافت معنى جديداً لم نعرفه من قبل. قال لها:

– لا ياحاجة. لا أخاف من الحرب. ولاتدري نفس بأي أرض تموت. ولكني أخاف من الهزيمة؟ أتذكرين قبل ست سنوات.. يعني سنة السبع وستين.. يومذاك جللنا العار في حزيران. قالت الإذاعات كلاماً عن النصر، ومع ذلك وقعت الهزيمة واستقال الرئيس جمال عبد الناصر، وراحت قناة السويس وسيناء والضفة وهضبة الجولان احتلها الإسرائيليون!

خافت أمي، وبقي أبي ينصت إلى أخبار إذاعة صوت العرب من راديو البطارية الصغير الموجود بحوزته، أما أنا فقد خرجت إلى الشرفة ونظرت إلى الليل من حولنا. كانت جبهة الجولان تومض من بعيد كأن ثمة برقاً ورعداً ومطراً هناك.. خفتُ أيضاً، وعدت إلى أمي بسرعة فوجدتها تبكي.

سألتها:

– ماذا سيحصل يا أمي؟ أنا خائف.. هل سيأتي اليهود ويأخذون الشام؟!

احتضنتني أمي، وقالت لي:

– لا.. لاتخف.. لن يؤذي أحد هذه المدينة. الرسول عليه السلام قال: من رماها بسهم رماه الله بسهم من كنانته؟

سألتها:

– ماذا تعني الكنانة؟!

هزت رأسها. فهي لاتعرف المعنى، فصارت الكلمة تشغلني لحظة بعد لحظة ودقيقة بعد دقيقة، إلى أن نمت. نمت بقلق، تارة أنام وتارة أصحو، وبين النوم والصحو تبرز الكلمة إلى ذاكرتي، وكأني أتهجاها..

شاهدنا الطائرات الإسرائيلية تسقط وتحترق، وشاهدناها وهي تضرب دمشق، وبدأنا نعتاد الحرب منذ اليوم الثالث، ولاحظت أن أبي لم يعد يصاب بتلك الكآبة التي أصابته في الساعات الأولى.. تشجعت وذهبت إليه، وسألته:

– ماذا تعني الكنانة؟

طلب مني إعادة العبارة، وقال:

– يعني علبة السهام.

وسألني:

– من أين جئت بها؟

قلت له:

– أمي قالت لي في أول ليلة من الحرب: إن الرسول عليه السلام قال عن الشام: من رماها بسهم رماها الله بسهم من كنانته؟!

نهض أبي فرحاً، وقال:

– ليتها قالت لي ذلك، فقد أمضيت تلك الليلة بخوف على الشام!

منذ ذلك الوقت وأنا أردد تلك العبارة بثقة، وقد حفظت جيداً معنى الكلمة ولن أنساها أبداً!

العدد 1105 - 01/5/2024