قيم ما بعد الحرب… تقدّم أم انكفاء؟!

حسين خليفة:

القيم مُفردها قيمة، وترتبط لغويّاً بمادة قَوَمَ التي تمتلك عدّة دلالات منها قيمة الشّيء وثمنه، والثّبات والدّوام، والاستقامة والاعتدال، ونظام الأمر وعِماده. وأقربها إلى معنى القيمة هو الثّبات والدّوام والاستمرار على الشّيء.

أمّا اصطلاحاً فإنّ القيم هي القواعد التي تقوم عليها الحياة الإنسانيّة وتختلف بها عن الحياة الحيوانيّة، كما تختلف الحضارات بحسب تصوّرها لها.

أيّ أنها معاييرٌ، وأسسٌ متعارفٌ عليها ضمن المجتمع الواحد، وتُشير إلى طرق تعامل الأفراد معاً، والموافقة على السلوك المقبول، ورفض غير المقبول، ويعتمد تصنيف كل قيمة بناءً على نظرة الناس إليها. وتعتبر الأخلاق من أهم أنواع القيم البشرية.

القيم مكتسبة لدى الفرد من الوسط الاجتماعي والتربوي (عائلة، مدرسة، مجتمع) ومن المعارف التي يكتسبها الفرد ذاتياً (الثقافة)، وتمتاز القيم الأخلاقية بقوتها وسطوتها على الفرد، فترى حالات التمرّد على القيم (السلبية خصوصاً) تصطدم بجدران كتيمة من الرفض الاجتماعي تفضي إلى عزلة الفرد وانكفائه واستسلامه غالباً للسائد القيمي، وإن كان مُتيقّناً من تهافتها وخطئها.

والأمثلة أكثر من أن تُحصى على مستوى التجارب الفردية في مجتمعاتنا تحديداً، وهي مجتمعات تجور على حرية الفرد لصالح قيم الجماعة، مثل الزواج خارج البيئة الاجتماعية (الدينية، الطائفية، القومية) أو ممارسة عادات مذمومة أو غير مألوفة في أوساط معينة (شرب الكحول، اللباس بالنسبة للمرأة تحديداً، الأفراح والأتراح….الخ)، فيصبح الفرد عاجزاً عن التعبير عن نفسه قيمياً ويضطرّ إلى مسايرة السائد أو التحايل عليه بممارسة (تقية اجتماعية) تجبره على ارتداء قناع اجتماعي لا يخلعه إلاّ عندما ينزوي بعيداً عن البيئة الاجتماعية.

والقيم الإيجابية عموماً لا يوجد اختلاف عليها، لكن بعض القيم التي تتمترس خلفها الجماعة نتيجة موروث ديني أو قبلي أو تاريخي تحمل طابعاً سلبياً تجعل الفرد المعافى الواعي يحاول عبثاً تجاوزها، والأمر هنا يحتاج إلى نفس طويل وعمل جماعي للقوى (الطبقات) صاحبة المصلحة في التغيير.

في سني الحرب السورية العجاف سقطت قيم كثيرة وولدت قيم جديدة، وهو ما تفعله عادة الأحداث التاريخية المفصلية، فالسرقة مثلاً هي قيمة مذمومة ومرفوضة بالمطلق، أصبحت مقبولة في أوساط كثيرة تحت مُسمّى (التعفيش) وهو نهب بيوت المواطنين الذين نزحوا من مناطقهم نتيجة الأعمال القتالية، وباتت أوساط اجتماعية تقدم مبررات لذلك، من انخفاض دخول المقاتلين إلى ربط الموضوع بالصراع السياسي والعسكري الدائر واعتبار هذه المسروقات (غنائم حرب) باعتبار أصحابها (بيئة حاضنة) للإرهاب، وهو المصطلح السخيف الذي كان هدفه وما زال التقسيم العمودي للمجتمع السوري مناطقياً وطائفياً إلى أشرار وخيّرين، وجرى تبنّيه من قبل كثير من المحللين السياسيين ووسائل الإعلام.

الأمر ينسحب على أعمال أخرى أشدُّ إيلاماً وفظاعة من السرقة، مثل القتل على الهوية، أو التمثيل بالجثث مادياً ومعنوياً، أو تعذيب المعتقل أو المخطوف حتى الموت، أو أخذ أطفاله أو ذويه كرهائن للضغط عليه.

وتوسعت قيم سلبية كانت موجودة أصلاً، مثل الدعارة والمتاجرة بما يسمى الرقيق الأبيض وتجارة الأعضاء وغيرها.

ومعلوم أنه لا توجد حروب جيدة وحروب سيئة، فكل الحروب مدانة وسيئة ومؤذية ومشوّهة للبنى الاجتماعية والاقتصادية.

لكن لا بدّ من الإشارة إلى نمو ظواهر ايجابية لم تكن بادية في المجتمع السوري، مثل ظاهرة التطوّع لمساعدة النازحين والمشردين، وخصوصاً ضمن فئة الشباب، وإن تعرّضت هذه الظاهرة الإيجابية لكثير من حالات التشويه والمتاجرة.

كما أفرزت الحرب ظاهرة جديدة وهي دخول المرأة إلى قطاعات عمل كانت حكراً على الرجال إلاّ ما ندر، مثل العمل المجتمعي العام (جمعيات، منتديات، أحزاب…الخ) والعمل في المقاهي الشعبية والمطاعم، وهو رغم أنه جاء نتيجة غياب الرجل المعيل بسبب ظروف الحرب والاعتقال والهجرة، لكنه بالمحصلة تطور إيجابي باتجاه خروج النساء من سجن المطبخ إلى فضاء العمل والإنتاج.

ولا بدّ أخيراً من الإشارة إلى أن آثار الحرب على القيم المجتمعية لن تظهر مباشرة، وسيمرُّ وقت طويل نسبياً حتى تظهر التغيّرات الحقيقية على القيم الاجتماعية، وما ذكرناه آنفاً هو أقرب إلى إرهاصات لتغيّرات كبرى ستتمخّض عنها الحرب باتجاه ولادة سورية جديدة نتمنى ونعمل لتكون أجمل وأكثر انفتاحاً وديمقراطية وتقدماً.

العدد 1140 - 22/01/2025